جريمة فوق المقطم: عصير مسموم وخيانة تُنهي حياة سائق طيب خرج “يسترزق”

في زقاق ضيق يتفرع من شارع مزدحم بحي المطرية شرق القاهرة، تفوح رائحة الشاي ممزوجة برائحة الحزن من جدران بيت متواضع. هناك، لا يزال الباب مواربًا على غياب لا يُعوَّض، ووجوه اعتادت انتظار “عادل سيد رمضان”، سائق التاكسي الذي غادر مساءً بحثًا عن قوت يومه، ليكون جبل المقطم آخر محطاته في هذه الحياة.
وداع لم يُخطط له
لم يكن عادل يتوقع أن الرحلة التي بدأها بابتسامة متعبة ستنتهي بخيانة مدبّرة. رجل في منتصف الأربعينيات، عرفه الجميع بدماثة خلقه وكدّه المتواصل. في النهار، يعمل سائقًا لأتوبيس مدرسة، وفي الليل يقود تاكسيًا لتأمين حياة كريمة لأسرته. تلك الليلة، طمأن والدته العجوز وزوجته بأنه لن يتأخر، فهو يخطط لإيصال ابنه “محمد”، صاحب الخمس سنوات، إلى الحضانة في الصباح.
لكن الصمت كان أول من عاد إلى البيت، تبعه قلق كاسح مع ساعات غيابه الطويلة. شقيقته “منال” تحكي بصوت خافت: “كنا بنرن عليه، والتليفون يرن وميفتحش.. بعد كده فصل خالص، قلبي وقع”.

خيوط جريمة هادئة
بدأت رحلة البحث في قسم المطرية، حيث سرعان ما بدأت خيوط القصة تتكشف. خلال ثلاثة أيام فقط، توصلت التحريات إلى أن الحادث ليس قضاءً وقدرًا، بل جريمة قتل مدبرة. المتهمان شابان من أبناء الحي ذاته، يعرفان “عادل” جيدًا، وركبا معه مرات عدة. خدعوه هذه المرة بحجة تصوير فيديوهات على تطبيق “تيك توك” في منطقة المقطم، مستغلين طيبته واستعداده للمساعدة.
وفقًا لرواية العائلة، اشترى الشابان العصير من متجر قريب، وأضافا إليه أقراصًا مخدرة. أحدهما كان يجهّز العصير، بينما الآخر يضحك ويدردش مع الضحية. ما إن فقد “عادل” وعيه حتى استوليا على السيارة والهاتف، وألقيا بجسده من أعلى المقطم.
كاميرات.. واتصال قاد للقبض
الكاميرات المثبتة على الطريق سجلت كل شيء: لحظة شراء العصير، دخول السيارة، والصورة الأخيرة لعادل وهو يجلس مرهقًا خلف المقود. المثير أن أحد الجناة استخدم هاتف الضحية للاتصال بوالدته، محاولًا تبرير غيابه، وهو ما قاد الشرطة إليه لاحقًا.
خطة الجناة لم تنجح في طمس الجريمة، إذ حاولوا بيع السيارة والتخلص من الهاتف، لكن أجهزة الأمن نصبت كمينًا محكمًا داخل أحد السنترالات بمدينة بدر، بمساعدة أحد العناصر الإجرامية الذي أوهمهم بشراء المسروقات، وأوقع بهم.
بيت منكسر.. وطفلان يسألان: فين بابا؟
في بيت تسكنه 4 أجيال، تتوسط صورة “عادل” جدار الصالة، محاطة بآيات قرآنية ووشاح أسود. الأم تمسك بمصحف صغير، تقلب صفحاته دون أن تقرأ، تتمتم: “كان ممكن ياخدوا العربية ويمشوا.. بس القسوة دى ليه؟”.
زوجته تحكي: “ابني محمد كل يوم يصحى يقول فين بابا؟.. ورقية الصغيرة تجري على الباب أول ما تسمع صوت مفاتيح”.
أما محمد، الطفل، فيحتفظ بحذاء والده تحت السرير، ويرفض أن يُبعده أحد. “بيقول: لما بابا يرجع، هيلبسه ونروح الحضانة سوا”، تهمس جدته.
العدالة المنتظرة
النيابة العامة وجّهت تهم القتل العمد المقترن بالسرقة مع سبق الإصرار والترصد، استنادًا إلى الأدلة المصورة والتحقيقات التي أثبتت التخطيط الكامل للجريمة.
الأم لا تطلب سوى العدالة: “مش طالبة غير الإعدام ليهم.. مش شماتة، بس علشان يعرفوا إن الدم مش رخيص”.
في الصورة الأخيرة التي سجلتها الكاميرا، يظهر “عادل” بقميص أزرق باهت، عيناه نصف مغمضتين من الإرهاق، وابتسامة صغيرة كأنها تودّع الحياة دون أن تدري.
“ربنا يقدر القضاء.. إحنا ضعاف، بس الحق ما بيموتش”، تقولها أمه بينما تتبع شقوق الجدار بعينيها، كأنها تقرأ منها تفاصيل الليلة الأخيرة.






