الحَقِيقَةُ يَا وَلَدِي… بقلم: د. أَحْمَدُ إِبْرَاهِيمُ مَرْعُوه
هَا هِي الدُّنْيَا الَّتِي كُنْتُ أُحِبُّهَا
اجْلِسْ أَقُصُّ عَلَيْكَ شَيْئًا مِنْ تَجَارُبِي، أَبُثُّ لَكَ بَعْضًا مِنْ عَوَاطِفِي
هَا هِي الدُّنْيَا الَّتِي عِشْتُ فِيهَا عُمْرِي الَّذِي أُفَكِّرُ فِي بَقِيَّتِهِ الَّتِي لَا تَكْفِي لِفَهْمِ حَقِيقَةِ الْكَوْنِ، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: أَتَكْفِي لِلْوُصُولِ إِلَى أَعْمَاقِ الْمَنْشُودِ!
وكثيرًا مَا سَأَلْتُهَا: أَتَسْتَحِقُّ هَذِهِ الدُّنْيَا كُلَّ هَذَا الْعَنَاءِ لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَةِ الْأَشْيَاءِ وَأَعُودُ سَرِيعًا إِلَى ذَاكِرَتِي فَأَجِدُنِي أَغُوصُ فِي أَعْمَاقِهَا دُونَمَا أَدْرِي، تِلْكَ الْأَعْمَاقَ الَّتِي مَا زَالَتْ تُرْهِقُنِي كُلَّمَا بَحَثْتُ عَنْ طُرُقِ الخَلَاصِ مِنْهَا.
قَدْ كَانَ الْعَقْلُ يَأْبَى المُسْتَحِيلَ، وَكُلَّمَا حَاوَلْتُ الضَّغْطَ عَلَيْهِ بِقَنَاعَاتٍ لَمْ يَكُنْ يَتَقَبَّلُ بَعْضًا مِنْهَا كَانَ يَغُطُّ فِي ثُبَاتٍ عَمِيقٍ، فَأَلْجَأُ إِلَى قَلْبِي الْحَنُونِ أَتَوَدَّدُ إلْيِهِ بِبَعْضِ النَّبْضَاتِ، لِنَنْجُوا مِنَ الْإِحْبَاطَاتِ، عَلَّنَا نَخْطُو بَعْضَ الخَطْوَاتِ!
وَكَمْ مَنْ مَرَّةٍ طَلَبْتُ مِنْهُ أَلَّا يَسْتَكِينَ لِلدَّعَةِ، وَأَلَّا يَنَامَ هُنَاكَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ المُؤَدِّي إِلَى الْحَرِيقِ المُشتَعَلِ وَسَطِ الْعَوَاصِفِ.
وَأَلَّا يَنَامَ دُونَ أَنْ يُنْشِدَ (أُنْشودَةَ الْعَوَاطِفِ) الَّتِي كُنَّا نَتَشَبَّثُ بِهَا رَغْمَ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ لَحْنِ الْألَمِ.
وَأَلَّا يَسْتَيْقِظَ دُونَ أَنْ يَحلُمَ حُلْمَ عُبُورِ الْكَوْنِ الَّذِي نَوَدُّ إِدْرَاكَ مَعَالِمِهِ، لَكِنْ يَا وَلَدِي دُونَمَا جَدْوَى تُحَطِّمُ الْحُلْمَ الَّذِي مَضَى وَكَأَنَّهُ أَسْرَعُ ذِكْرَى مَضَتْ.
قَدْ كُنْتُ أُحِبُّهَا كَمَا أُحِبُّكَ يَا وَلَدِي: أُحِبُّ تِلْكَ الْأَفْكَارَ جَمِيعَهَا، فَهِي الَّتِي مَا زَالتْ تَجُولُ بِخَاطِرِي، فَكَيْفَ لِي التَّحَرُّرُ مِنْ سُجُونِهَا، وَوَدَاعِ كُلِّ إغْرَاءَاتِهَا وَالْمَوْتُ كَادَ يُدْرِكُنِي قَبْلَ أَنْ أَمْضِي مِنْ حُلْمِي حُقَبًا.
قَدْ كَانَ رَبِيعًا لَمْ يَمْكُثْ طَوِيلًا أَمَامَ قِصَرِ الْعُمُرِ بَعْدَمَا قَرَّبَهُ خَرِيفُ الْمَوْتِ مِنْ دُنُوِّ الْأَجَلِ، أَذْهَبُ إِلَيْهِ وَلَا أعْرِفُ إِلَى أَيِّهِمَا أَمْضِي– إِلَى الجَحِيمِ مَنْ يَدْرِي -إِلَى النَّعِيمِ… لَسْتُ أَدْرِي، كُلُّ الَّذِي أَدْرِيهِ أ نَّنِي ذَاهِبٌ إِلَى لِقَاءِ رَبِّي.
أَتَظُنُّ يَا بُنَيَّ كُلُّ الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ تَكْفِي: كَلَّا، بَلْ هِي رَحْمَةُ رَبِّي الَّتِي هِي حُلْمِي وَكُلُّ مَا أَبْغِي!