الفكر المصرى بين أيديولوجية التعزيز والإنحراف الدرامى … بقلم : د. زكي السيد
بداية وفى معرض سطورى لابد أن نسلط الضوء جليا على دور الفن برمته فى فرض هوية المجتمع ، وهذا بالطبع لن يتأتى إلا من خلال إبراز المحور الأساسي الذي تدور فى كنفه العلاقة الكائنة بين الفن والمجتمع وأيهما يلعب الدور الأبرز تجاه الآخر.
مما لاشك فيه أن كلا من الفن والمجتمع يربطهما محركا واحدا يستنبطان دورهما الأساسي من خلاله ألا وهو “الفرد ”
فالفن بطبيعته وسيلة للحوار الحسي بين كافة أطياف المجتمع ، والذي يستطيع من خلاله الفرد ان يبث رسائل مفهومه لكل أصناف البشريه ، دون أن تقف أمامه عثرات أو حواجز تعيقه كحواجز الزمان والمكان ، فضلا عن ذلك فإن الفن بطبيعته رسالة وليده مرتبطة بحركات الفرد اليومية ،تجدها تارة في حركاته بالمأكل والمشرب، وتارة أخرى تجدها فى علاقاته مع شركائه داخل المجتمع ، إلا أنها تختلف محورها حسب النهج والسلوك النابع من الفرد ذاته ،فقد يتبلور هذا السلوك فى شكل من أشكال الإبداع الحسي وذاك هو الفن المعنى محور الإشكالية التي نحن بصددها.
وإذا كان المجتمع بطبيعته ” نظاما شبه مغلقا” تشكله مجموعة من الناس، بحيث أن معظم التفاعلات والتأثيرات تأتي من أفراد من نفس المجموعة البشرية، فإن علاقات الأفراد تلك هى فى حد ذاتها فنا تنظمه ظروف الحال وطبيعة تلك العلاقات.
بناء على ما سبق لا نجد غضاضة إذا جزمنا يقينا بالمد الايجابي لدور الفن فى التأثير على المجتمعات ” فإذا أردت أن تقيس قيمة مجتمع ما فانظر إلى فنه”.
ولما كانت الفنون بطبيعتها تتعدد وتختلف فيما بينها، إلا أن مايهمنا فى هذا السياق هو ذاك النوع من الفن الذى يحدث الأثر الأكبر في التأثير النفسي على كيان الفرد وفكره وينعكس بدوره على رقى وتقدم المجتمع ألا وهو ” الفن المرئي والمسموع”.
وهنا يبرز تساؤلا هاما تتبلور حوله ماهية العرض وهو ”
هل تلعب القوى الناعمة ” الفنون” دورا هاما في تشكيل هوية الفكر المجتمعي ؟
ان الاجابة على هذا التساؤل تبرز جليا عند الوقوف على طبيعة الهدف الذي تقره الأعمال الفنية ،فمما لا شك فيه أن احد أهم أهدافها، هو تسليط الضوء على قضايا المجتمع وما فيه من مشكلات تحتاج إلى دراسة وتوعية لأن تسليط الضوء عليها وكشف خباياها والتعرف الى أبرز نتائجها ومعرفة إفرازاتها وتجنبها يحقق مصلحة مجتمعية عليا.
وإزاء هذا الدور الهام للقوى الناعمة في فرض الهوية المجتمعية، يجب الإشارة إن هذا الدور محوره الأساسي طبيعة ما يقدم من أعمال، فطبيعة العمل ذاته تلعب الدور الأبرز في تشكيل الفكر المجتمعي إيجابا و سلبا ، ولا اعنى قطعا بطبيعة العمل هنا فكرة العمل فحسب ، بل المحتوى العام للعمل بدء من فكرة العمل مرورا بصناعه وجميع القائمين عليه؛ وتباعا بالدور المنوط بالدولة فى توفير المناخ الخصب، من أدوات وإجراءات تسهم فى تقديم فكرة راقية من خلال عمل مميز يعود بالإيجاب مستقبلا على المجتمع ، ولنا فى قطاع الإنتاج المصري نموذجا يحتذى به.
وإزاء البحث حيال الدور الذي تلعبه الفنون في بذر الهوية والإطار الفكري والقيمي المجتمعى ، يجدر بنا الأمر أن نقف برهة أمام ….قول “حطان ابن المعلى” :
وانما اولادنا بيننا.. اكبادنا تمشي على الأرض.
لو هبت الريح على بعضهم.. لأمتنعت عيني من الغمض.
كلمات مأثوره تحمل بين طياتها عظم المكانة التي يشغلها النشأ فى المجتمع ، بل تكاد تكون حقيقة ضربت بجذورها أرض الواقع لما تمثله مكانة النشأ ،فهو طفل اليوم ورجل الغد وصانع أطر المستقبل.
لاشك أنه فى ظل مسيرة الرخاء والتنمية التى يسوس دفتها فخامة الرئيس العظيم “عبد الفتاح السيسي” للمضى بنا قدما نحو آفاق جديدة تواكب ركب الرقى والتقدم العالمى ، الأمر الذى يتحتم معه تضافر جميع الجهود لكافة مؤسسات وقطاعات الدولة للوصول بنا إلى الهدف المنشود.
وفى ظل تلك الجهود الرائده للوصول إلى مجتمعا مثاليا على كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، نجد من هم دون المستوى بذات الركب ، يحاولون بشتى الطرق إفساد ما تم بذره من محاولات للتنمية والارتقاء المجتمعي ، عامدين إلى بث سمومهم فى أروقة الفكر المجتمعى المصرى.
ما من شك مطلقا ، أن الفن هو البوابة الأولى للملتقى ، و التى تنتقل وآفاقه حول العالم نحو البحث عن ثقافات جديدة ، فهو بمثابة الموجه الأول للفكر المجتمعي.
بيد أن ماتستحوذ عليه فرائض الفن واداراته من اهتماما مجتمعيا ، قد اضحى الشاغل الأول لقياس المد الفكري على الصعيد المحلى والدولى ، ولما لا وهى تمثل كبرى قضايا تعزيز السلوك لدى النشأ سواء بالإيجاب أو السلب خاصة إذا ما تضمن المحتوى المعروض ما يؤثر حقا على تشكيل الهوية الفكرية لهذه الفئة من الأشخاص.
ولعل أخطر أنواع الفنون ووسائلها، هو ذاك النوع الداعى إلى انحطاط القيم والتدنى الخلقى و الداعم الأول لانحراف سلوك النشء وتعزيز سمات العنف لديه ، وهو ما يطلق عليه ” العنف المتلفز”.
ولاشك أنه فى ظل وتيرة التقدم التكنولوجي التي تحياها البشرية ، من خلال الشبكات الدولية للمعلومات والاتصالات ، قد فتح الباب على مصراعيه للتلفزيون ليحتل مكانة هامة فى المجتمع ، لما له من آثار إيجابية وسلبية على المتلقى خاصة فئة الأطفال ، حيث يمثل المعلم الأول للمحاكاة لدى هذا الفصيل ، من خلال فكرة التعلم بالملاحظة.
وقد أكدت العديد من الدراسات البحثية النفسيه ” أن تعزيز السلوك المنحرف والذي يحوي بين طياته مشاهد العنف والقتل و التى تبثها البرامج الترفيهية الإعلامية أو الأعمال الدراميه، له العديد من الآثار التى تعزز الجانب السلبي لسلوك النشأ وشخصيته ، لأن مثل هذه البرامج قد تنمى مشاعر الإحباط و التى تؤدى بدورها لعدوانية السلوك”.
وفي هذا الصدد يرى ” باندورا”
إن نزعة العدوان عند الأشخاص هي نزعة فطرية بطبعها ، اما ان يتم تهذيبها والحد من آثارها أو تعزيزها وبالتالي يصبح الشخص أكثر عدوانية ، فتشكل جزء من سلوكه.
في الحقيقة أن مادفعنا لغزل هذه السطور ، هو بيان الأثر الهام لدور الفن في تشكيل المد الفكري للنشأ وتعزيزه ناحية الإيجاب ، وهو ما افتقدناه جليا فى المحتوى الفنى
المقدم فى الفترات الاخيره ، و التى تتعارض تماما مع نهج الدولة الرائد فى المضى قدما نحو سبل التنمية والرخاء التي تشهدها مصرنا الحبيبة في ظل قيادة حكيمة واعية.
ولعل السبب فى ذلك ، هو عدم قدرة القائمين على المنظومة الفنية من إدارتها بالشكل الأمثل والمطلوب والذي يتوائم مع ذات النهج المشار إليه سلفا ، إما لعدم وجود الآليات والكوادر الفكرية التي تساير ذات النهج أو لضعف قدرة المجابهه لديهم امام تيار الفضائيات الخاصة والذي ألقى بشباكه على المنظومة ككل.
ولعل فيما خرجت به الدراما المصريه علينا فى المواسم الرمضانيه الاخيره ، ما يحمل فى طياته بداية النهاية لهذا المسلسل الفني الفاشل ، فالانحراف المادي والضمني التي تدعو إليها تلك الأعمال ، تتعارض تماما مع معايير وقيم المواثيق المهنية والأخلاقية و المفترض جدلا السعي إلى ترسيخها ، وللأسف لا نجد حراكا واحدا من القائمين على هذه المنظومة لوقف بث هذه السموم.
ولعل النموذج الأمثل الذى يحاكى ذلك ، والذى يبرز حقيقة هذا الأمر ،ما يشهده المجتمع المصرى من انحدارا تاما فى المضمون والمحتوى المقدم فى العمل الدرامى الرمضانى { توبه} والمنسوب للدراما جزافا ، فما يحمله هذا العمل فى طياته من ترسيخ لقيم تخالف الهوية المجتمعية والأعراف من ” بلطجة، ألفاظ خادشة للحياء ، تدنيس الشكل العام لمدن البسالة والتضحية ، قد حمل على عاتقه البحث حيال كيفية تدمير الذوق العام المصرى بألفاظا مبتذلة جارحة، تحمل في طياتها نموذجا للتحرش اللفظى والجسدى فى مشاهد غريبة الطله على قيم وأخلاقيات هذا الشعب العريق، مما يسهم جليا فى إسقاط الهوية الفكرية للنشا المصرى، ويبذر بداخله الميل الدائم للانحراف السلوكي.
وعلى النقيض تماما وبالعودة فى سفرة راقيه إلى نوستالجيا الزمن الجميل فى تسعينيات القرن المنصرم ، يصحبنا رائد المسرح المصرى العظيم النجم الكبير ” محمد صبحى ” من خلال ” يوميات ونيس ” إلى دراما تعزيز السلوك وتنمية الفكر وترسيخ المبادئ القويمة من خلال حلقات تتوائم تماما مع واقع الأسرة المصرية ، وتلائم آليات الفكر التربوي.
لقد استطاع “محمد صبحى ” ان يرسخ خبراته العظيمه ، و يؤصل جليا لنظرة واقعية مفادها أن الفن كرس لتجميل الواقع المجتمعي، وأن العلاقة التبادلية بين الفنون كقيمة ثقافية تطرح على العامة وبين عموم المجتمع، كتجسيد حي متفاعل مع هذه القيم، يجب أن ترتقى دوما إلى أعلى ولا تنحرف أبدا ولو بقدر ضئيل إلى أسفل على كافة الأصعدة والمستويات ، لتحقيق المعادلة الأصعب فى تعزيز السلوكيات القويمة والمثل الفضلى لدى النشأ ، فاستحق وعن جدارة أن يوسم دائما” بمربي الأجيال الفاضل”.
و لعل مايعنينا هنا حقا، هو البحث حيال مايعززه ذاك السلوك المنحرف المتلفز ،والذى يحمل بين طياته نوعا من أنواع العنف فى تعزيز آثارا شديدة السلبية لدى فئات المراهقين والأطفال ، والتي قد ترسخ نزعة العدوان لديهم ، والذى يحمل فى طياته أيضا مايعاقب عليه القانون .
في الحقيقة، أن ما تشهده الساحة الدرامية المصرية فى الاونه الاخيره من انحدارا وإنهيارا تاما في المد الثقافي المعروض ، يدعو بالضروره للتدخل السريع الحازم والعاجل لإنقاذ ماتبقى من الذوق العام المصرى ، والذى غفلت عنه تلك الكوادر و التى لا تملك من الفكر المهنى و الرقابى ما يؤهلها حقا للتمييز بين إيجابية وسلبية المحتوى المعروض.
لقد وصل الركب إلى مراتب الرياده بقيادة حكيمة واعية تدرك جليا عظم الدور المنوط بها للوصول بهذا البلد العريق المكانة المستحقة ، وأضحى لامكان لغافل أو متقاعس فى تحقيق هذا الحلم المنشود ، فلابد أن نصطف جميعا خلف قيادتنا الحكيمة حتى نصل إلى رونق وسحر النهاية المنشودة والمأموله لمصرنا الحبيبه ، وليذهب دعاة الهدم والتخريب إلى أوكارهم الحقيقية.