الفرشاة التي تكتب تاريخًا لم نَعِشه: الفن التشكيلي بوصفه ذاكرة غائب

كتبت / رشا الأغا
حين يقف الفنان أمام قماشته البيضاء، يظن أنه يخلق من العدم، لكنه في الحقيقة قد يكون أداة لاستحضار قصص لم يعشها، وخطوط لم يرسمها بوعيه، بل رسمتها ذاكرة لم يدرك وجودها أصلاً.
هل الفن التشكيلي إفشاء لذاكرة غائبة؟
لطالما اعتقدنا أن الرسم انعكاسٌ مباشر لأفكارنا، لكن ماذا لو كان أيضًا انعكاسًا لذكريات مدفونة في جيناتنا؟ ماذا لو كانت الأشكال التي نرسمها تحمل آثارًا من مشاعر وتجارب أجدادنا، وكأن الفرشاة تسحب من أعماقنا تاريخًا لم نكتبه بأنفسنا؟
تأمل فنانًا يرسم وجوهًا لم يلتقِ بها من قبل، ثم يكتشف لاحقًا أنها تشبه صورًا قديمة لأسلافه. أو آخر يستوحي تفاصيل مدن لم يزرها، ثم يكتشف أن أجداده عاشوا فيها يومًا ما. هل كان يرسم من ذاكرته؟ أم من ذاكرة أخرى ضاعت في الزمن لكن بقي أثرها في خلاياه؟
حين يرسم الجسد ما لم يقله العقل
في علم الوراثة، هناك نظرية تقول إن التجارب العاطفية والصدمات القوية يمكن أن تترك أثرًا بيولوجيًا في الأجيال القادمة. لكن هل يمكن لهذه الصدمات أن تترجم إلى فن؟ هل يمكن أن تكون اللوحات التي تحتوي على مشاهد حزن، أو كوابيس متكررة، مجرد انعكاس لما عاشه أجدادنا في صمت؟
قد تكون الألوان التي تجذبنا، أو الأشكال التي نكررها، ليست مجرد تفضيلات شخصية، بل استجابة داخلية لقصص لم تُروَ. ربما عندما يميل أحدنا لرسم أمواج البحر دون سبب واضح، فإنه يلتقط خوف جدّه الغريق، أو حين يرسم آخر نوافذ مغلقة بأقفال صدئة، فإنه يبعث من جديد إحساس القهر الذي عاشه من سبقوه.
الرسم بوصفه محاولة لفك شيفرة الماضي
ربما علينا أن ننظر إلى الفن التشكيلي ليس كعملية إبداعية فحسب، بل كتجربة استكشاف للذات. أن نرسم ونطرح الأسئلة بدلًا من أن نرسم ونظن أننا نملك الإجابات. لماذا نكرر رموزًا بعينها؟ لماذا نتعلق بأنماط وألوان لا نعرف سبب حبنا لها؟ هل نحن نرسم حاضرنا، أم نعيد طباعة ماضينا على القماش دون أن نشعر؟
الخاتمة: الفن كمرآة للجينات
قد يكون الفن التشكيلي أعمق مما نظن، ليس مجرد مشاعر لحظية، بل أصواتًا عالقة بين الأجيال. ربما حين نمسك بالفرشاة، لا نكون وحدنا، بل يحمل معنا جيناتنا تاريخًا طويلًا يطلب أن يُسمع، وحكايات تبحث عن لونٍ لترسم به نفسها من جديد.






