مقالات

ظرفاء …. …. ولكن بقلم : دكتور ماهر جبر 

ظرفاء …. …. ولكن بقلم : دكتور ماهر جبر 

ظرفاء ........ ولكن بقلم : دكتور ماهر جبر 
الدكتور ماهر جبر

خفة الظل لا تباع ولا تشترى، لكنها هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده فيضع لهم القبول في الأرض، وقد ترتبط خفة الظل بالذكاء وسرعة البديهة فتكسب صاحبها مهارة لا يستطيع أحد مجاراتها، بل يكون غبياً من يلجأ لذلك لأنه لا محالة خاسر. لذا لا يستطيع أحد ادعاء امتلاكها هذه الهبة وهو فاقدها، فإذا أراد ذلك وأصر عليه أصبح ثقيلاً لا يُطاق.

وتاريخ مصر والعرب مليء بالظرفاء الذين ملئوا الدنيا مرحاً وسخريةً كالجاحظ، وأشعب الطماع، والمتنبي، وأبو تمام، وأبو نواس، وغيرهم كثير، لكنا سنعرض في هذا المقال لبعض ظرفاء العصر الحديث. ومواقفهم الساخرة، كحافظ إبراهيم، وشوقي، وكامل الشناوي، والشاعران البائسان عبد الحميد الديب، محمد إمام العبد. وكذا محمد البابلي، إلا أن الصورة لا تكتمل هنا دون ذكر أظرف ظرفاء العصر الحديث الشيخ عبد العزيز البشري، فله باع وزراع وسبق دائم في هذا المضمار. حتى أنه تربع بلا ريب على عرش ظرفاء ذلك العصر، ونعرض الآن لبعض المواقف التي أكدت ريادتهم في هذا المجال. وأثبتت لنا كم كان هؤلاء الناس على قدر حاجتهم، وضيق ذات يدهم، مرتدين دائماً رداء القناعة الذي ألبسهم لباس الرضا والحمد.

الشيخ عبد العزيز البشري:

ولتكن أول هذه الحكايات عن الشيخ عبد العزيز البشري، وقد كان قاضياً شرعياً وكاتباً وأديباً، وكان ملء السمع والأبصار.

يحكى عنه أنه كان مسافرا ذات مرة بالقطار وكان يرتدي الجبة والقفطان والعمامة، وهو لباس القضاة الشرعيين المميز في ذلك الزمان. فجلس بجانبه رجل من أهل الريف تبدو عليه حدة الطباع وعصبية المزاج، وكان الجو حارا. فأخرج الرجل خطاباً من جيبه وقال للشيخ( والنبي تقرالي الجواب ده يا عم الشيخ، وكان الخط رديئاً جداً، فأخذ الشيخ يقلبه ويدقق النظر فيه محاولا قراءته لكنه لم يستطع، فقال للرجل لا أعرف. فإحتد عليه قائلاً شيخ إيه وبتاع إيه، ولابس جبة وقفطان وعمامة كمان، ومش عارف تقرأ الجواب. فما كان من الشيخ البشري إلا أن قال له يعني العيب في العمامة. وخلعها من فوق رأسه ووضعها على رأس الرجل قائلاً له أقرأ أنت الجواب .

كما حُكيَ عنه أيضا أنه كان يجلس ذات مرة مع وزيراً للحربية وكان برتبة فريق. فأراد هذا الوزير أن يسخر من الشيخ البشري فقال يا شيخنا ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم. قاضي في الجنة وقاضيان في النار، قال نعم يا سيادة الوزير ولكن الله قال فريق في الجنة وفريق في السعير. ويذكر أنه مرة دخل المسجد للصلاة وكان معه بعض أصدقائه ومنهم شاعر النيل حافظ ابراهيم، فلما خلع عمامته للوضوء. وجد مكتوبا عليها( حمار)، وكان كاتبها حافظ ابراهيم. ووجدهم يضحكون، فما كان منه إلا أن نظر اليهم متسائلاً، مين مسح وجهه في عمامتي ؟. 

الشاعران البائسان عبد الحميد الديب. وإمام العبد:

وإذا ما انتقلنا للشاعران البائسان عبد الحميد الديب. وإمام العبد، فنجد أن الظرف هنا اقترن بالفقر المدقع، والبؤس الشديد، مما زادهما خفة في الظل، حيث ارتبطت المأساة بالملهاة. والحزن بالإبتسامة الساخرة، فسخروا حتى من أنفسهم. فالشاعر عبد الحميد الديب جسد البؤس والفقر في أوضح صوره حين قال( جعنا وشبعت الكلاب. وتعرينا واكتست الأضرحة)، وكان يبيت بالليالي والأيام دون طعام وليس له مكان يأوي اليه، فكان صديقا للفئران في مواسير المجاري التي وضعتها البلدية في الشوارع كي تستخدمها فيما بعد. حيث كانت مأواه الوحيد. بينما كان إمام العبد لا يوجد في بيته الذي يسكن فيه أي مظهر للحياة. ويحكى أنهم كانا يسيران معاً في الشارع فإذا بجنازة يتقدمها واعظ يقول بصوت مرتفع(أيها الناس فليتعظ الحي بالميت. من لم يعظه الموت فلا واعظ له، إن هذا الميت ذاهب الى دار لا مأكل فيها ولا مشرب). فنظر عبد الحميد الديب الى إمام العبد قائلاً( إلحق يا إمام دا الميت رايح دارك).

الجدير بالذكر أن إمام العبد كان شديد الفقر، شديد سواد الوجه. وكانوا يكتبون في زمانهم بقلم من البوص، مستخدمين حبراً سائلا. مما كان يؤدي في بعض الحالات الى سيلان بعض من نقاط الحبر على الورق. وبينما هم كذلك انسكب الحبر. وكان الجو حاراً، فإذا بالشيخ عبد العزيز البشري يقول له إمسح عرقك يا إمام. وكان الحبر أسوداً.

شاعر النيل ” حافظ ابراهيم “

ولنا مع خفة الظل كذلك نموذج أكثر من رائع حيث شاعر النيل حافظ ابراهيم ومواقفه التي لا تحصى. ولا تُعد في هذا المجال، يذكر أنه مرة أعد وليمة لأصدقائه، وكان منهم الشيخ البشري. وأمير الشعراء شوقي. فبينما كان يجلس في حديقة منزله الصغيرة منتظراً إياهم، إذ بالشيخ يقبل عليه فقال له حافظ( والله يا شيخ الواحد نظره أصبح ضعيف، وانت جاي فكرتك واحدة ست، فرد عليه البشري قائلاً صحيح والله النظر دا مشكلة. وأنا من بعيد فكرتك راجل). فلما جلسوا للطعام بعد حضور أمير الشعراء، وكان من أصناف الطعام على المائدة (قلقاس). فأراد شوقي اختبارهم فقال من يستطيع منكم أن يأتي بكلمة قلقاس في بيت من الشعر. فصمت الجميع إلا حافظ أنشد قائلاً (فإن سألوك عن قلبي وما قاسى، فقل قاسَ وقلقاسَ وقلقاسَ).

ويذكر عنه كذلك أن صديقاً له إقترض منه خمسة جنيهات وكانت مبلغاً كبيراً في ذلك الزمان. وتأخر عليه كثيراً في السداد وكان كلما يرى حافظ يقول له أين تسكن يا صديقي ؟ حتى آتي لك بديني لأني لا أتذكره إلا عندما أراك، وكان حافظ يشعر بضيق ذات يده. فقال له أنا أسكن في الإمام الشافعي( يقصد مقابر الإمام الشافعي). فتعجب الرجل من قوله، فقال له حافظ لأنها عندما تتوفر معك سأكون قد انتقلت الى هناك بعد مفارقتي للحياة.

محمد البابلي

أما محمد البابلي فقد كان جالسا ذات مرة مع صديق له. وكان هذا الصديق يحاول مراراً وتكراراً أن يأخذ عصاة البابلي التي يحملها لجمالها ، فلما ألح عليه قال له انها ليست ملكي، فرد عليه إنها مكتوب عليها الحروف الأولى من إسمك( م_ب)، فما كان من البابلي إلا أن قال له (م_ب) يعني مش بتاعتي. كما ذكر عنه أنه جلس يلعب الطاولة مرة مع أحد بشوات مصر، فلم يعجب الباشا لعبة لعبها البابلي، فقال له بذمتك دي لعبة تلعبها يا بابلي. انت أيه الفرق بينك كده وبين الحمار، فرد عليه الترابيزة ياباشا .

وأخيراً لو تحدثنا عن كامل الشناوي شاعر (لا تكذبي)، ورغم حياته المليئة بالماسي إلا أن خفة ظله لم تفارقه، وكان يتندر على الشاعر البائس عبد الحميد الديب ويخرج أمامه ورقة بعشرة قروش ويقول لها أما هذا فهو عبد الحميد الديب، على إعتبار أنه لم يراها من قبل ولم يتعارفا.

الخلاصة. وما أود التأكيد عليه أن ظرف هؤلاء وخفة ظلهم لم يكن على الإطلاق تعبيراً أو دليلاً على حياتهم المملوءة بالسعادة، الخالية من كل المشاق والصعاب. وإنما كان كلاً منهم مأساة وحده، فهذا الشاعر البائس وحياته المليئة بالضياع والهُيام، وهذا إمام العبد وفقره الشديد، وأيضاً كامل الشناوي ومآسيه الكثيرة المرتبطة بولعه بإحدى الفنانات التي لم تشعر به، وحافظ ابراهيم ويُتمه وفقره وغيرهم، إنما كانت خفة ظلهم هبة من الله، استطاعوا من خلالها إسعاد الآخرين، وإن لم يستطيعوا إسعاد أنفسهم .

 

سعيد المسلماني

مساعد رئيس تحرير الموقع
شاهد ايضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى