الله أكبر يا خلائق كبري …… بقلم د. ماهر جبر
في دروب مكة، الحانات مكتظة بالبغايا يركضن تحت أقدام أسياد قريش وكبرائها، الطرقات مملوءة بالسكارى يترنحون يمنة ويسرة، يعتدون على المارة من ضعفاء مكة وعبيدها. وفي ساحة الكعبة أهل قريش يقدمون القرابين ويسجدون لأصنام لا تنفع ولا تضر، في مكان آخر خلف الجبل يتوارى أحدهم من قومه حاملاً لفافة يصدر منها بكاء طفلة تنتظر وأدها لا لذنب جنته غير كونها أنثى، وعبيد يعذبون، ونساء يُستهان بهم. وتستحل أعراضهم، المشهد كله فسق وكفر وضلال، ألا من منقذ؟ ألا من مغيث؟، ثم يأتي هاتف بالبشرى يا أيتها الأرواح الشريرة أهربي من دروب مكة وضواحيها.
يا جبال مكة اهتزي طربا وفرحا، يا طيور غردي، يا بيداء مكة أخرجي ماؤك وأطفئي ظمأ العطشى، يا ذئاب مكة ترفقي بأغنامها، يا أوثان مكة واصنامها نُكسي، يا أشجار مكة تراقصي واجعلي حفيدك لحناً عذباً، يا صناديد قريش ووجهائها، يا وليد بن المغيرة. يا عمرو بن هشام، يا أبو سفيان بن حرب، هل لكم من نور وضياء يهديكم الى طريق الحق والنور والصواب، يحفظ لكم أبناؤكم ويطهركم ويزكيكم. يبقي على سجاياكم وينجيكم من خطاياكم، يبين لكم نور الحق المبين، ويمحو عنكم ظلام الجهل اللعين، فتقر أعينكم وترتاح أنفسكم، يا بلال بن رباح. ويا كل عبيد مكة.
وضعفائهم ارفعوا رؤوسكم، يا نيران فارس أنطفئي، يا إيوان كسرى تهدم، يا رياح الشر أغرُبي. ويا نسيم العدل والحق والجمال هب على الدنيا فبدل حزنها أملاً، ويأسها فرحا وسروراً. فقد جاء العدل وسطع النور، جاء ليعم أرجاء الدنيا. ويزيح ظلاماً دام بها أمدا طويلاً، فقد طلع في السماء اليوم نجم أحمد، فالله أكبر يا خلائق كبري.
بشري مولد الحبيب:
بجوار الكعبة بينما يجلس عبد المطلب أكبر سدنة الكعبة وخدامها وسيد أكابرها. إذ جاءته مسرعة تلتقط أنفاسها جارية من جواريه تحمل له بشرى بميلاد طفل لآمنة زوجة ابنه عبدالله. قائلة أنه نزل مسروراً مختوناً شاخصاً ببصره الى السماء، سر عبد المطلب وتهلل وجهه، وتذكر بصوت مسموع حلم رأه من قبل. فقد رأى وكأنه يخرج من ظهره سلسلة من فضة لها أربعة أطراف. طرفاها إحداها في المشرق. والأخرى في المغرب. وإحداها في الشمال، والأخرى في الجنوب، ثم أصبحت شجرة كل أوراقها مضيئة، والناس من كل مكان يتعلقون بها.
وأسرع الى آمنة متهللا مباركا فأخبرته أنها رأت في نومها من قبل أنها تحمل في بطنها نور. ويخرج منها نور ليضيء أرض العرب والفرس والروم ويملأ الأرض كلها مشرقها ومغربها، فبشراكم يا آمنة بالنور الذي حملتيه في بطنه الشريفة. فمن خير أصلاب وأرحام أتى، فوالله إن القمر الذي يصدح في عنان السماء يستحي أن يضاهي نوره بنور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مولد الحبيب:
كان مولده صلى الله عليه وسلم فجر الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل. وكانت القابلة التي ولدته هي الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف. ونزل ساجداً رافعاً راسه و إصبعيه الى السماء. وقد رأت أمه في منامها رؤيا وسمعت صوتاً يقول لها إنك حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم. حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض قولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. وتروي عن حملها فيه قائلة أنها لم تشعر أثناء حمله بما تشعر به النساء من تعب الحمل. وآلام المخاض والوضع، وأنها عندما وضعته رأت نوراً يخرج منها أنار لها قصور بصرى من أرض الشام.
والنبي هو أبو القاسم محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان من قريش، صلى الله عليه وسلم.
حليمة السعدية وبركة حضور الحبيب:
تروي حليمة السعدية مرضعته أنه بمجيئ محمد تبدلت أحوالهم من ضنك العيش، حتى كانوا لا يجدون ما يطعمون به أبنائهم وغنمهم الى رغد ورزق. وخير لم يروه من قبل، فكانت ترضع معه أطفالاً كثيرة. وكان صلى الله عليه وسلم يتيماً حضنته خادمة أبيه عبدالله. وكانت تكنى أم أيمن الحبشية، ثم كفله جده عبد المطلب، ثم عمه أبو طالب، فضمه لتجارته وسار به إلى الشام وهو ابن ثماني سنوات. ولنا هنا وقفة عظيمة مع راهب يتعبد في صومعته في الصحراء يُدعى بحيرة وخادمه نسطاس، يُحكى أنه لما رأى الراهب قافلة القوم. وجد غمامة تظل غلاماً فقط، ولا تظل الآخرين معه، فدعاهم الى طعام ولم تكن من عادته ذلك. وطلب من أبو طالب ألا يتخلف أحد من القافلة، لكنهم أتوا جميعا إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فتعجب الراهب واستنكر عدم مجيئه.
الراهب يتحقق من النبوة:
فقال أبو طالب إنه غلام تركناه في القافلة حارساً لها. فأصر الراهب بحيرة على مجيئه. فلما حضر الغلام انتحى به جانبا. وقال له، يا غلام أستحلفك بالله والعُزى إلا أخبرتني عما أسألك، قال لا تسألني باللات والعزى فوالله ما كرهت شيئاً كرهي لهما، بل أسألني بالله، قال أستحلفك بالله ألا أخبرتني. أتحب العزلة؟ فقال نعم، أتأمل السماء والنجوم بالليل؟ قال نعم، ألعب مع الغلمان كما يلعبون؟ فقال لا، أترى في نومك رؤى تصدق في يقظتك؟ قال نعم، فيقول الراهب يا أبا طالب خبرني ما هذا الغلام منك؟ يقول أبو طالب إنه إبني.
يقول بحيرة الراهب لا ما هذا الغلام بإبنك ولا ينبغي له أن يكون أبوه حيا، فيقول إنه ابن أخي. فيقول الراهب وما فعل أبوه ؟. يقول مات وأُمه حًبلى به، يقول الراهب صدقت. ارجع بابن أخيك إلى قومك واحذر عليه اليهود، فوالله إن رأوه وعرفوا منه ما عرفت يبغونه شراً. فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا وما قرأناه عن أجدادنا. أن وجهه وجه نبي. وعينه عين نبي وهو الذي يُوحى إليه خبراً من السماء ينبىء به أهل الأرض.
معجزات مولد الحبيب:
ومن معجزات يوم مولده صلى الله عليه وسلم، أن إبليس حجب عن السماء كلها بعد أن كان يخترقها، وأن الشياطين رميت بالشهب، ونُكبت الأصنام على وجهها، وسقطت إيوان كسرى، وانطفأت نيران فارس. وبطل وتوقف سحر الساحرين. وخرج إبليس يتفقد الأمر،فما حجب عن السماء من قبل،حتى وصل الى الحرم المكي فوجده محاط بالملائكة. ومنعوه من الدخول، وسأله جبريل ما ورائك لعنك الله؟، فقال ما حدث في الأرض؟.قال جبريل ولد محمد صلى الله عليه وسلم، فسأله إبليس هل لي نصيب فيه؟، قال جبريل لا.
البشري من السماء:
حين مولده صلى الله عليه وسلم، نودي في السماء والأرض والبحار أبشروا فقد ولد محمد، وعلمت الدواب والطيور كلها بذلك. وبني في الجنة سبعون ألف قصر من الياقوت الأحمر ومثلها من لؤلؤ رطب، وأمر الله الجنة أن تتزين لمولده عليه السلام.
وها هي عجوز في البادية تدعى أم معبد تصفه لزوجها بعد أن مر عليها ومسح على ضرع شاتها العجفاء التي لا تحلب فانهمر الحليب منها فارتدوا جميعاً، قالت واصفة إياه ( إنه رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، لم تعبه ثجلة، تعني ليس بكبير البطن، ولم تزر به صقلة أي ليس نحيل ضعيف، وسيم قسيم. حسن وضيء بين الحسن، في عينيه دعج أي شدة سواد، وفي أشفاره وطف أي شعر رمشه طويل منثن. وفي صوته صحل أي بحة جميلة، وفي عنقه سطع، أي عنقه طويل مضيء، أزج أقرن أي متقوس الحاجبين، إن صمت علاه الوقار، وإن تكلم سما برأسه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاها من بعيد. وأجلاهم وأحسنهم من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كلامه في حسنه بلاغة، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً.
تقصد وصاحباه أبو بكر، وعامر بن أُريقط ، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله. وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود أي يتسابقون لتنفيذ ما يطلب. وما ذلك إلا محبة فيه وتعظيما لقدره في نفوسهم، لا عابس ولا مفند أي ليس كالح الوجه ولا منسوب الى الجهل، صاحبه كريم عليه. فقال زوجها هو والله صاحب قريش، وإني لمتابعة إن وجدت الى ذلك سبيلاً.
الحبيب يصف الدار الأخرة:
يقول صلى الله عليه وسلم، أنا سيد ولد آدم يوم القيامة. وأول من ينشق عنه القبر. وأول شافع، وأول مشفع، حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء، أي طوله كعرضه. وماؤه أبيض من الورق، أي من الفضة، وريحه أطيب من المسك، أباريقه كنجوم السماء من كثرتها. فمن شرب منه لا يظمأ بعده أبداً.
صلى الله عليك وسلم حبيبي يا رسول الله، اللهم اسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم اجعلنا رفقائه في الجنة، اللهم اهدنا الى اتباع سنته والسير على هداه فعلاً لا قولاً، اللهم آمين آمين آمين يارب العالمين.