حمدي رزق يكتب… المالك والمستأجر.. جولة جديدة من الحوار !
” أن تأتى متأخرا خير من أن لا تأتى أبدا ” ، عزم حكومة المهندس مصطفي مدبولي فتح ملف الإيجارات القديمة ، جرأة تحسد عليها، ملف الإيجارات السكنية القديمة المسكوت عنه منذ عقود مضت، خوفا أو طمعا، بقي على حاله لم يمس، ورغم تصاعد منحنى الشكوى إلى عنان السماء، و وجلت وخشت حكومات متعاقبة ألا تفتحه بل تقترب منه، وصار مثل قنبلة موقوتة كل يتدارى منها ويبعدها إلى أبعد مسافة منه .
المهندس مدبولي، يعبر عن عزمه باصرار على “فتح أحد أهم القضايا التاريخية المعقدة ” ويرى ان حكومته تعرضت لملفات صعبة، وواجهت المشكلات التاريخية التي فضل الكثيرون الابتعاد عنها، وهدفنا الوصول إلى صيغة تعيد التوازن بين المالك والمستأجر .
رئيس الحكومة مدرك تماما حساسية الملف، وإلحاحه على أعصاب المجتمع، إذا استحضر فى اجتماعه لمناقشة القضية أركان حكومته المتصلين بالملف، المستشار عمر مروان، وزير العدل، واللواء محمود شعراوي، وزير التنمية المحلية، والدكتور عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، وغيرهم برلمانيين وخبراء إسكان وجملة المهتمين بالملف الشائك ( ذوى الخبرة ) ..
حكومة فض الملفات التاريخية، في مستهل الجمهورية الجديدة، لم تذهب إلى فتح الملف رفاهية، الحكومة حملت قبلا تبعات ملفات ثقيلة، ولكن حيثيات الاقتراب من هذا الملف، تقول بشكاوٍ ومطالبات تصك الأذان متعلقة بقضية الإيجارات القديمة والتي تتطلب إيجاد حل لهذه المشكلة، رئيس الوزراء: “بطمن الجميع ملاك ومستأجرين، نستمع إلى كثير من الخبراء والمختصين، وكذا لدينا دراسات متعددة حول هذا الأمر”.
معامل الاقتراب يحدده المهندس مدبولي: “ضرورة تحقيق التوازن بين أطراف العملية الإيجارية، بهدف الوصول إلى صيغة عادلة، وفي الوقت نفسه مراعاة البعد الاجتماعي”.
وضع المهندس مدبولي يده على مربط الفرس، البعد الاجتماعي، لكل قانون نفع، ونفع أكثر من ضرره، ويقينا هناك متضررون، وحسنا قال: “القضية ليست قضية الحكومة وحدها، ولكنها قضية رأي عام، ونكرر إننا سنجد حلا لهذه المشكلة التاريخية التي لا ذنب لنا فيها، ولكن سنعمل على حلها، من خلال العمل معا كحكومة تنفيذية وكسلطة تشريعية”.
الطريق إلى صيغة جديدة للعلاقة بين المالك والمستأجر محفوف بمخاطر اجتماعية جمة، لذا كان المهندس مدبولي حصيفا في تصدير خطابه إلى الرأي العام، محدد الكلمات، والعبارات، دون انحراف أو انحراف حماسة لإنجاز القانون الحساس، كل كلمة بميزان من دهب، “نحن نحتاج إلى التوافق على أهمية إعادة التوازن بين الملاك والمستأجرين، وتأكيد مراعاة الشرائح الاجتماعية الأكثر احتياجا في هذا القانون، بحيث تتم إتاحة فترة انتقالية لتوفيق الأوضاع، ودراسة المعايير الجديدة التي سيحدد على أساسها إعادة التوازن، لافتًا إلى أن هذه هي المبادئ التي يمكن العمل عليها”.
رئيس الوزراء لم يكتف بالقول، سارع بتشكيل لجنة مشتركة من الجانبين بهدف العمل على صياغة مشروع قانون، يتم طرحه أولا على الرأي العام، بهدف إجراء حوار مجتمعي بشأنه، قبل إقراره من البرلمان.
حسنا فعل مدبولي بإطلاق الحوار المجتمعي على صيغة مقترحة، وصفها المستشار عمر مروان وزير العدل، “هدفنا صياغة قانون يُعيد التوازن بين المالك والمستأجر، وعلاج التشوه التاريخي في هذا الملف، والحكومة حاليا لديها بدائل كثيرة، تتمثل في مئات الآلاف من الوحدات السكنية تناسب مختلف الشرائح”.
وزاد الأمر وضوحا الدكتور عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، بمقترح إنشاء صندوق تكافل للسكن للحالات الأكثر احتياجا، يساهم فيه المنتفعون من هذا القانون، على أن ينظم هذا القانون ذلك في حالة الإيجار للأغراض السكنية.
الاقتراب الحكومي من هذا الملف “اللغم” يحتاج إلى ذكاء سياسى في معالجة أخطر الملفات الاجتماعية، الحكومة ليست في نزهة خلوية، أخشى في أصعب امتحاناتها السياسية، ما يتطلب وقت كاف، لإجراء حوار مجتمعي موسع لا يهمل حرفا يشير إلى حالة، وكل بند يحتاج إلى تمحيص دقيق، والعجلة هنا من الشيطان ، والشيطان يكمن فى التفاصيل .
معلوم ، أن القانون يمس شرائح رقيقة الحال في أحياء فقيرة، بعيدا عما يطفو على سطح القضية في الأحياء الراقية، ما أبعد الشقة توصيفا بين شقة مؤجرة في ” روض الفرح ” منذ قرن من الزمان، وبين شقة في ” الزمالك ” مؤجرة منذ نصف قرن من الزمان، مستوجب مراعاة الزمان والمكان .
فكرة قانون جديد الإيجارات السكنية القديمة، لا يصح أن يخرج مقطوعا من بيئته المجتمعية، سيصبح قانون في ( اللازمان واللامكان ) ، وهذا جد خطير، ومعلوم “اللي إيده في النار مش زي اللي إيده في الميه الساقعة”، وهذا القانون جمرة نار موقدة قد تشعل حريقا مجتمعيا لا طاقة لنا به فى ظرف الجائحة وتداعياتها على الحالة الاقتصادية فى الشرائح البسيطة مجتمعيا .
القضية الساخنة تحتاج وقتا ، إلى حين تنضج رؤية وطنية لحلها عبر حوار وطني معتبر يقوده مجلسا النواب والشيوخ، يتمخض عن مشروع قانون محترم، يوازن بين حقوق المالك وحقوق المستأجر في العقود الإيجارية الممتدة وفق القانون القديم.
معلوم تغيير مثل هذا القانون يحتاج إلى توافق مجتمعي حقيقي أولا ، وهذا غير حادث ولا متوقع حدوثه في ظل احتدام المواقف وتضارب المصالح، فالملاك كالمستأجرين كل يحمل حجية قانونية ومطالبة مجتمعية تعضد موقفه، ولن يتزحزح أحدهما قيد أنملة عن موقفه، والموقفان متعارضان تماما، والتوفيق بينهما يحتاج إلى ما يشبه المعجزة.
التخندق الحاصل على الجبهتين ، والعاملون على القضية مكاسبا ، يعقد إمكانية الوصول إلى ( اتفاق ملزم وعادل) ينهي واحدة من أعقد المشكلات المجتمعية المتخلفة من عقود مضت كان التوافق حاضرا.
صوت العقل غائب حتى ساعته في هذه القضية بالكلية، وأي محاولة للتقريب بين الجبهتين تبوء بالفشل، وحدث كثيرًا.. ووصل إلى حدود تخويف الحكومات المتتالية من مجرد الاقتراب من قضية جد غاية الحساسية المجتمعية .
للأمانة ، حكومة مدبولي كعادتها تقتحم أعقد المشاكل بغية حلها، وشعارها ما لم يحل اليوم يعقد الغد، والغد يحمل بشرى جمهورية جديدة، خالية من الأمراض المتوطنة والسارية، جمهورية قانونية تقوم على الحقوق والواجبات المجتمعية والالتزامات الحكومية بإعانة الشرائح المتضررة من تبعات الإصلاح التشريعي.
ورغم روح التفاؤل لدى الملاك ، والاحباط لدى المستأجرين ، الذى أحدثته الحكومة باقتحام القضية التاريخية، فإن الاقتراب من هذه القضية لا بد أن يتم باحتراس تام، ومراعاة للمراكز القانونية والاجتماعية والإنسانية، وليس لدينا رفاهية الاحتراب المجتمعي، ولا نحتمل هزات اجتماعية، السلم الأهلي أسمى أمانينا.
يقينًا هناك ظلم واقع، وهناك حقوق ضائعة، ورد المظالم وجبر الخواطر مطلوب، ولكن رد المظالم لا يرتب مظالم أفدح، ورد الحقوق لا يهضم حقوقا أخرى، وستظل القضية تراوح مكانها، ومهما اجتهدت فعدلت في هذه القضية يقينا ظلمت .. قول الشاعر طرفة بن العبد ( شاعر جاهلي ) يصدق فى هذه القضية :” وظلـم ذوي القربـى أشــدُّ مضـاضـة على المرء من وقع الحسام المهند ” .. عفوا تجاوزت في المعنى والقصد، ولكن للضرورة احكام بلاغية ، إذا اعتبرنا الملاك والمستأجرين أقرباء بحكم العشرة الطويلة الممتدة من قرن مضى .. على طريقة هذا ما وجدنا عليه أبناءنا !
مهم ( ونشد على يد الحكومة ) ألا تترك القضية هكذا دون اقتراب قانوني خشية تفجرها في وجوهنا مستقبلا، لأنها تعتمل تحت السطح وعلى الفضائيات وفي الفضاء الإلكتروني، والتحزبات والاحتراب على أشدها بين الطرفين.
مقترح من جانبنا، وأرجو ألا يقابل بالرفض والاستهجان والاتهامات المعلبة التي عطلتنا طويلا، مقترح أن يتولى تفكيك هذه القضية، خلية من ” حكماء ثقاة ” يثق فيهم الطرفان (الملاك والمستأجرون)، يقودون الحوار المجتمعي إلى اتفاق على القواعد الشرعية والقانونية الحاكمة ، حد أدنى من التوافق يمكن البناء عليه مستقبلا .
ومن جانبي أرشح فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب ” أحمد الطيب ” شيخ الأزهر، وقداسة البابا تواضروس، ليقوما برعاية أعمال لجنة من الثقاة يحكمون فيما شجر بين الملاك والمستأجرين، بالقِسْطاس والعدل، وبما يرضاه ربنا شرعا ويرتضيه الطرفان قانونا .. القضية جدرها دينى ، وحكم المحكمة الدستورية العليا دال على مانقول ” وضعت حدًا لتوارث أقارب المستأجر الأصلي لعقد الإيجار بـ ٣ أحكام قضت فيها بعدم دستورية النص القانوني، وأصبح امتداد العقد لمرة واحدة فقط للأقارب المقيمين من الدرجة الأولى فقط ( زوج وأولاد ووالدين ) ، وأيضاَ أحكام حديثة لمحكمة النقض تثبت أخر مستأجر أصلى للسكن والمستحق من بعده لمرة أخيرة ، على أساس من الشريعة الإسلامية .
وأعتقد أن كلاهما ( الإمام والبابا ) بحكم موقعهما الروحي والأدبي قادرين على الجمع بين الطرفين على كلمة سواء، بما لا يُظلم أحد، وينضج مقترح تتولى الحكومة تقديمه في مشروع قانون إلى مجلسي ( النواب والشيوخ ) بعيدا عن الضغوط المجتمعية .
أملنا ان يحقق مشروع القانون الجديد بعض من المطالب على الجانبين، وفق قاعدة ” ما لا يدرك كله فلا يترك جله ” ليأخذ المشروع المرتجى طريقه إلى التنفيذ الأمين دونما احتراب لا نحتمل نتائجه المجتمعية .
القاعدة الأصولية التي تنسحب على هذا الملف، قاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، وتعتبر من قواعد الفقه الإسلامي المندرجة تحت القاعدة الأم المتفق عليها “لا ضرر ولا ضرار” والتي تكشف من خلال تطبيقاتها وما يندرج تحتها من فروع كثيرة عن مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو: منع الفعل الضار في جميع صوره قبل وقوعه احترازًا، ومعالجة أثره بعد وقوعه ..