مقالات

حمدي رزق يكتب: كنت رئيسًا مؤقتًا لـ«المصرى اليوم»

حمدي رزق يكتب: كنت رئيسًا مؤقتًا لـ«المصرى اليوم»

حمدي رزق يكتب: كنت رئيسًا مؤقتًا لـ«المصرى اليوم»
حمدي رزق

الرئيس «المؤقت»، فى وصف المستشار الجليل «عدلى منصور»، أطال الله عمره، حمله تشريفًا يوم حمل أمانة وطنه، وأداها كاملة إلى أهلها فاستحق لقب «الجليل» لجليل الأعمال الوطنية التى أداها فى إنكار ذات نادر المثال.

ومشتق منه رئيس التحرير «المؤقت» وهذا وصف ربما أستحقه بعد 150 يومًا أعمالًا صحفية شاقة فى رئاسة تحرير «المصرى اليوم»، وهذا الوصف الذى أستملحه تمامًا له قصة ترتبط بعلاقتى الوطيدة بـ«المصرى اليوم»، ومحبتى لناسها (ملاكا وصحفيين)، لم أكن أتأخر عليها يوما، فلما نادانى المنادى يطلب عونا للمرور من منعطف خطير كانت تمر به صحيفتنا الغراء، لبيت النداء، وأمسكت الدفة، فلما انقشعت الغمة، وعادت سفينة «المصرى اليوم» سيرتها الأولى مبحرة، تنحيت جانبا أحمل ذكريات عبرت رسمتنى «روز اليوسف» صحفيًا، أول مرة اسمى أراه منشورًا على صفحات مجلتها المتمردة، وسمتنى «دار الهلال» رئيسًا للتحرير، كنت رئيس تحرير مجلة «المصور» المحافظة، وأصبحت كاتبًا فى «المصرى اليوم» فى أول خروج من كنف الصحافة القومية.

يقولون من خرج من داره اتقل مقداره، إلا فى حالتى، كانت خروجتى من «روز اليوسف» إلى «المصور» ثم إلى «المصرى اليوم»، خيرًا وزيادة.. لم أشعر بالغربة قط، ولا قصدت بيتًا وغلقت أبوابه، ربك كريم.

على سبيل التجريب، كتبت ما ظننته مقالًا عن طيب الذكر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور «محمد سيد طنطاوى» يرحمه الله، لم يجد مساحة للنشر فى مجلة «المصور» لقسوة النقد وخشونة اللفظ، كانت سطور المقال تؤشر على ميلاد كاتب هجّام من طراز عنيف مُغيرًا على العمامة الكبرى، وكان فى وقته خطيئة لا تغتفر قبل أن تستبيح الأقلام الإمامة بالحق وبالباطل، وبكل اللهجات حتى المنفر منها قولًا وحرفًا ووصفًا.

ولأنها ولدت على وقتها، وعلى شوق لصحافة شابة عفية لا تخشى من أشباح الماضى، ولا تصحو فزعة على كوابيسه، رئيس التحرير الصديق الأريب «أنور الهوارى» (ابن دفعتى وأيامى)، استقبل المقال الذى أرسلته برسم «المصور» بأريحية وترحاب، وكأنه يشرب حاجة ساقعة، مرحبًا ومباركًا وبلكنة خاصة يشعرك أنك فى «دوار العمدة» من فرط كرمه، وزاد بأنه سيكون تاليا مقالًا أسبوعيًا، وله كل الفضل أن اختار له العنوان أعلاه «فصل الخطاب» واعتبرته من «فضل الأحباب».

هل كان الهوارى محقا فى انتقاء هذا العنوان الذى صار لصيقا بى طوال سنوات خلت وإلى ساعته، أخشى الإجابة بـ(لا)، فمعنى «فصل الخطاب»، البين من الكلام الملخص الذى يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه ألا يخطئ صاحبه مظانّ الفصل والوصل، فلا يقف فى كلمة، لفاصل من الخطاب الذى يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ، ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذى ليس فيه.

ما يفيض به خاطرى، محض رأى، وأتقفى بتواضع قول إمامنا الإمام الشافعى: «رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب»، لذا أراه عنوانا يتجاوز التواضع الذى عليه كاتب يخطئ ويصيب، ولكنه صار عنوانا تجاوزته إمكانية التغيير.

لم أكن أدرى أن هناك عينًا خبيرة تشبه عيون كشافى الملاعب فى خلفية الصورة، وضعنى تحت منظاره، أسبوع وراء أسبوع، ومقال ورا مقال، يستملح الكلم الطيب، ويستطيب التراكيب، ويحلق مع الأفكار، ويتحمس للأقلام الطازجة، اسمه مجردا «صلاح دياب» أو كما أناديه «عمى صلاح».

العم صلاح جواهرجى أريب ينتقى من نهر الكتابة الجارى، أقلاما سائغة يضيفها إلى مجموعة الجواهر النادرة فى شكمجية «المصرى اليوم» العامرة بأثمن وأندر جواهر التاج فى الصحافة المصرية.

أنا اليوم جد سعيد، أنا أكتب إذن أنا موجود، قبلها (قبل المصرى اليوم) ضاعت فرص كثيرة لكتابة المقال، كنت عازفًا، كنت وجلًا خائفًا، لم أمتلك ناصية القلم بعد، كان لازمًا حقل تجارب، ميدان وتبة رماية للتدريب على التصويب، القاعدة الذهبية للرماية تقول بغلق العين الخالية من التنشين، ومرور شعاع البصر من فتحة الناشكناة الخلفية إلى أعلى سن نملة الدبانة أسفل منتصف الهدف، لإصابته فى السوادة.

الكتابة فى «المصرى اليوم» لم تكن يومًا منحة ولا عطية ولا حقوقا تاريخية لبيض الرؤوس، بل استحقاق مهنى بحت لا يناله إلا المجتهدون.

حدثنى تاليًا الصديق «مجدى الجلاد» ابن دفعتى أيضًا، وقال مبتهجًا، استعد للكتابة يوم ويوم، وقبلها طلب منى الحديث إلى الأستاذ «صلاح دياب»، وكان سؤالى مستغربًا: ليه فيه حاجة؟.. فكان رده أغرب: كلمه بس وإنت تفهم.

وفهمت أن هذا هو كشاف النجوم والكتاب، وأنه اختارنى على عينه، وطلب أن أكتب يوميًا، وكمرحلة تجريبية أكتب يوم ويوم لإحداث سباق بينى وبين من سيكتب من الزملاء، يشدون أزر بعضهم بعضا، يحفزوا بعض.

المنافسة فى الكتابة فى «المصرى اليوم» مطلوبة لشحذ الأقلام، وفى الأخير ستنتهى إلى ما خطط إليه الأستاذ صلاح، بأن يقتنى كاتبًا يضاف إلى باقة كتّاب «المصرى اليوم» مستلهمًا تجربة الأستاذ «مصطفى أمين» فى اكتشاف وصناعة النجوم.

وبالمناسبة كان العم صلاح محبا وصديقا مقربا من مصطفى بك، ونجوم الصحافة فى عصره وأوانه، وكانوا يجتمعون فى صالونه، وألمح من صور تحمل ذكريات فى مكتبه وجوه يوسف إدريس وأنيس منصور وصلاح حافظ و…

تخيلت لحظة أن تضمنى صورة مع الأستاذ صلاح ولكنى خجلا لم أطلبها حتى بعد أن اختارنى لرئاسة تحرير «المصرى اليوم» التى لم تدم سوى 150 يوما بالتمام والكمال (ولهذه الأيام قصة سأكتبها فى يوم من الأيام إن طال بنا العمر).

كلما التقينا يذكرنى الأستاذ صلاح بالحكاية، وبفخر يتحدث عن اكتشافه فى المنتديات التى يؤمها، والشكر واجب للأستاذ صلاح، لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو فضل، ومدين للمصرى اليوم برسمى كاتبًا، وأسجل هنا شهادة لوجه الله.

لم يُرفض مقال كتبته إلى «المصرى اليوم»، ولم يُحجب مقال فى الفترة من 2005 وحتى ساعته وتاريخه إلا فى حالات نادرة أو لنقل شاذة عن قاعدة النشر فى «المصرى اليوم»، وهى «كن حصيفًا ما دمت حرًا».

مقالاتى الممنوعة فى «المصرى اليوم» لا تزيد على عدد أصابع اليدين، بمعدل مقال ممنوع كل عام، وأذكر أشهرها مقالًا بعنوان «زى الفل» وكان تعقيبًا على مقولة للسيدة الفاضلة «سوزان مبارك» على سؤال عن صحة الرئيس الراحل «مبارك».

كان الحديث عن صحة الرئيس يومذاك من المحرمات، لأسباب صادفت قضية «صحة الرئيس» التى كان بطلها صديقى «إبراهيم عيسى»، وهذا المنع كان على سبيل المثال النادر.

أذكر بعد توليتى رئيس تحرير مجلة «المصور»، فاجأنى مسؤول كبير بملف ملغوم بمقالات عنيفة ضد أركان حكم الرئيس مبارك (كانت تحت عنوان دولة العواجيز)، وقال لى ضاحكًا، هذا ما وصل إلى الرئاسة ضدك باعتبارك كاتبا ضد النظام.

فضضت المغلف فوجدت نحو عشر مقالات مكتوبة جميعا فى «المصرى اليوم»، وبعضها بالغ القسوة، ومقال منها كافٍ لعدم اللياقة السياسية لرئاسة تحرير مجلة قومية، كادت مقالاتى فى «المصرى اليوم» تكلفنى حلمًا، ولكنها حققت لشخصى كل الأحلام، ومنها حلم رئاسة تحرير هذه المطبوعة التى تكمل عامها العشرين بقوة دفع خلاقة، كافية لتحلق فى سماء الصحافة العربية عاليا.

أذكر أن أول أسبوع فى رئاسة تحرير المصرى اليوم، وكان الجو خانقا، و«المصرى اليوم» عرضة لهجمات عنيفة من الصحف القومية، ومطلوب التخفف من أثقال بعض الكتاب حتى تمر الأزمة، وتصفو الأجواء.

بفطرة الصحفى التى هى ضد المنع رفضت، ودعم موقفى الأستاذ «صلاح دياب»، ولم يمنع مقالات هؤلاء الأفاضل، ولم يعلم أى منهم بما جرى، وكان منى ومنهم.. لا فضل فى النشر، والمنع من الكبائر المهنية التى تتحرى «المصرى اليوم» قدر الإمكان تجنبها.

أذكر ذلك جيدا ومدون بالتفاصيل، والمواقف، ولكن الحاكم فى يقينى أن «المصرى اليوم» حصيرتها واسعة، خلقت لتستوعب الآراء والأفكار التى لا تستوعبها صحف أخرى، وفيها مخزون أوكسجين كاف لتنفس الكتاب مهما كانت قدرتهم على حرق الأوكسجين المتاح فى الأجواء.

فى حوار تليفزيونى سئلت، أين تقع «المصرى اليوم» من نفسى؟، فأجبت ببداهة «يمين الوسط»، كما صحيفة «الأهالى» يسار الوسط، ليس بالمعنى السياسى، ولكن بالمعنى الصحفى، منبر صحفى ليبرالى حر ينمو ويزدهر وينتعش فى أجواء الحرية، ومنها يؤخذ مقياس الحريات الصحفية التى تستند إليها المؤسسات التى تعنى برصد منسوب حرية التعبير فى البلاد.

تكر السنوت كر المسبحة بين أصابع رجل صالح، وستظل «المصرى اليوم» عنوانا من عناوين الصحافة المصرية لعقود مقبلة، صدرت لتبقى، هكذا كنت أقول لزملائى فى «المصرى اليوم»، الجورنال الذى يتحمل كل هذه الصدمات، وقادر على امتصاصها، وتحويلها لقوة دفع ذاتية، يملك كل الفرص للبقاء تحت مظلة وطن عظيم اسمه مصر، واشتق اسم «المصرى» من المصرية التى هى عنوانه وتاجه.

 

نهى مرسي

نائب رئيس تحرير الموقع
شاهد ايضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى