حمدي رزق يكتب.. وكان فضل يوليو عظيما
وقبل أن يدهمنى السؤال الصعب: وكيف يكتب مَن لم يعش أيام ثورة يوليو، عن ثورة لم يرها ولم يعاصر أحداثها، وكيف يصير من دراويشها ويعيش على ذكراها، ذكريات عبرت أفق خيالى بارقًا يلمع فى جنح الليالى؟!.
أنا ومثلى كثير من أولاد الفقراء وُلدوا ولم يشهدوا الثورة قايمة والكفاح دوّار، تربّوا على لبان العزة والكرامة، وُلدنا مرفوعى الرأس، وتربينا على طبلية بسيطة فى قعر بيت لا يبين له عنوان، قُطرها لا يتسع لطموحاتنا التى أفسحت لنا ثورة يوليو مساحة رحيبة، حرثت يوليو الأرض وزرعتها بأشجار الأمل، شجرة مزهرة فى حديقة يوليو الغناء.
أنا ومثلى كثير، مَن تلقى تعليمه بالمجان ولم يعجز الفقر الأسرة عن تعليمنا، تفوقنا وما كنا فى الحساب أو يُعمل لنا حساب، وكان فضل يوليو عظيما.. متى كان التعليم لأولاد الفلاحين حقًا، متى كان التوظيف لأولاد العمال أملًا، متى كان للفقراء نصيب من الحياة فى الوطن، متى كان الأجداد والآباء محسوبين كبشر لهم حقوق وعليهم واجبات؟!.
يا سادة، إنها ثورة الفقراء الذين أنصفهم ناصر بثورته العظيمة، كان الله يرحمه بثورته الميمونة نصير الضعفاء.
نكتب فى موعد معلوم ٢٣ يوليو من كل عام، نكتب فخورين، ومثلى كان نسيًا منسيّا فى عزبة قصيّة فى مدينة مختفية من على خارطة القطر الكبير، فشب عن الطوق فإذا بناصر يخبره من القبر، يا بنى إن التعليم حق لكم كالماء والهواء، وإن المصريين جميعًا سواء، وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تأخذ الدنيا غلابا.
منحنى «ابن البوسطجى» العظيم، منح «ابن الفلاح» الطيب جواز مرور إلى العاصمة الكبيرة، وكانت العاصمة ووظائفها حكرًا على أبناء الأعيان، صار «ابن البوسطجى» رمزًا كريمًا نتقفى أثره فى المشوار الصعيب، وصار عَلَمًا منقوشًا على القلوب فى الصدور، وصار بيت شعر مُغنّى، ويا جمال يا مثال الوطنية.
ما تركه ناصر فينا كثير، بالأفعال لا بالأقوال، ما نكتب من سطور مطرزة بالفخار يكتب عنه وعن ثورته من تحصل والده على خمسة أفدنة بعقد تمليك أخضر، أول مرة فلاح مصرى يملك طينًا، قبلها كان مغروز فى الطين حتى رقبته، ويشيل الطين، وطين البرك على كعابه المشققة من لفحة أرض الهجير، ويخدم فى الوسية، وزوجته تخدم فى بيوت أصحاب الطين خدمة العبد للسيد، كان يزرع وغيره يحصد حبات العرق من على جبينه، يبيع تعبه وشقاه فى المزاد الكبير.. أخيرًا أكل والدى ووالدك مما زرعت يداهما، وكفاهما سؤال اللئيم.
أنا هو وهى ومثلى ومثلها كثير، منهم من تحصّل والده العليل على معاش، وعاش بجنيهات المعاش، جنيهات تقيمن صلبه وتعينه على الحياة، وربّى أولاده من حلال، وعاش على سيرة الثورة مخلصًا لشعاراتها، وإن لم يحسن الكلام مطرزا بالعبارات الفخيمة.. إنها ثورة شعب، ثورة ولاد الشعب، ناصر والضباط الأحرار.
ماتت أمى وهى تدعو لناصر، لأنه لم يبخل عليها من خير مصر كغيرها من الفُضليات.. كان إنسانًا، وتلونت ثورته بالإنسانية والكرامة الإنسانية التى كان ذروة سنامها عطفته على الفقراء.
لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو فضل، وكان فضل يوليو على جيلنا وأجيال سبقت وأجيال لم تولد بعدْ فضلًا عظيما.