عاجلقصص وروايات

خراب يا دنيا.. عمار يا بيتي

خراب يا دنيا.. عمار يا بيتي

خراب يا دنيا.. عمار يا بيتي

كتب / شريف محمد 

حيثُ اعتادَ أن يُلاقيها وقف في انتظارها ؛ اللهفة للقائها ، والبحث عن سعادة الحرية في أحضانها ، جعلاه لا يشعر ببرودة تلك الليلة من ليالي يناير المُثلِجة في دوران شبرا حيثُ يلتقيان بعيداً عن أعين معارفهما؛ أنيقاً على غير عادته ، مِعطَفه الصوفي الأسود الطويل يبعث تحته الحياة قميصّ من القطن الأبيض السميك ، كانت قد أهدته له هي ؛ ابتسامة حالمة تُخرِج من بين شفتيه بُخار الزفير كلّما تذكّرها ، تُرى من أي اتجاه ستأتي ، وأخيراً ظهر له البدر من بين جموع البشر المغادرين إلى منازلهم خشية زخات المطر المتكررة ، في أقل من أجزاء من الثانية كان يتغزّل مع نفسه في حجابها الكشميري، وتَبرُجّها الرقيق ، ولمعة عينيها السوداوين الضيقتين ، ما أن لقيها حتى أحاط جسدها الجميل المتفجّر بالأنوثة بكلتا يديه، من فوق معطفها الصوفي الأسود ، ذابت خجلاً وهمست : الناس يا صلاح!!
..همس بكل ما في جسده من رغبة :
وحشتيني أنتِ اليوم مُختلفة!
بشفتيها الرقيقتين المُطرّزتين بأحمر الشِفاه اللامع أسفل الأنف الحاد أجابت وهي تستفيق من نشوتها :
وأنتَ أيضاً..فيكَ شيءٌ مُختلف الليلة..يجذبني لأحضانكَ أكثر…عددتُ ساعات اليوم بالثواني حتى موعدنا..
جذبها من ذراعها الممتلئ التام الاستدارة : هيّا بنا..
بِدلالِ الاستسلام لقبضته حول ذراعها الغض ونظراته التي تخترق رداءَها المُخمَلي الأحمر أسفل مِعطفها الأسود قالت : إلى أين؟!!
أجاب بنبرة رقيقة لصوتٍ رجولي قوي : الكورنيش
قالت بجدية و قد تأبطت ذراعه :
ولكن شبرا كلها هناك !!
أجابها مُتجهاً لأحد الشوارع الجانبية المنبثقة من دوران شبرا :
وما المشكلة ؟!! لسنا من شبرا ولن يعرفنا أحد هنا..
ردت بابتسامة وهي تتوقف :
رجاءً لا داعي ، أريد الانفراد بك ، والحديث إليك ..
توقّف إلى جانبها ونظر إليها ثم استدار مواجهاً لها :
أريدكِ أن تُلغي عقلكِ الليلة، ..وتتركي لي الزِمام..
…حرّكت رأسها دليل القبول. ثنى ذراعه لتتعلق به ، تعلقت بذراعه بشدة غارزةً مِرفقه في جسدها إلى حيث قلبها.
..ستون دقيقة من المشي المُتسكّع ، تبادلا فيها كل أحاديث العشق والحب ؛ استوقفته بأنوثتها المتطايرة من عبق عطرها المُثير :
سيفوتنا موعد السينما..
..أطلق ضحكة بلغت السماء المُحمّرة بفعل الغيوم :
ليست السينما وجهتنا الليلة..
وقبل أن تخلط ذكاءها بِرقّة أنوثتِهَا .. رفعَ صوتهُ فجأة وقد جذبها بقوة راكضين إلى يمين شارع شبرا ذي الاتجاه الواحد:
تاكس..
توقفت السيارة الأجرة باغت صلاح السائق :
عبدالمنعم رياض؟!!.ودون انتظار الرد فتح الباب الخلفي من يمين السيارة الأجرة ، ودفع بها داخله ، دافعاً بجسده إلى جوارها مُباشرةً ، دونما أي فُرصة لتتحرك أملا منه أن يُلاصق جسده كامل استدارات جسدها ، لم تنطق ببنت شفاه ، مابين استسلامها لانكشاف معطفها الأسود و بروز كل مفاتنها أمامه ، وملاصقةِ فخذهُ الأيسر لفخذها الأيمن المُنحسر عنه رقبة الحذاء البوت المتفتح فوقهُ جوربها الصوفي الأسود الطويل الضيق ليكشف عن جمال لونها الخمري .
..بلغا عبدالمنعم رياض بسرعة عن المعتاد ، فقد كان شارع الجلاء شبه منفضٍ من حولهِ الناس ،على غير العادة؛ لكن وكالعادة كانت تلك الدقائق مُشبعة لرغبتيهما ، حيث لم يُفارق كفه الأيسر المتمدد فوق فخذها الأيمن كفها الأيمن المستسلم لقبضته..
..نقد صلاح السائق أجرتهُ وزيادة ليقذف إليه بدعوة صادقة :
سَتَرَكَ الله والأنسة..
..سعادتها بكلمة آنسة رغم اقترابها لمنتصف العِقد الرابع جعل الابتسامة تقفز من عينيها..بينما يجذبها صلاح للنزول من السيارة الأجرة ، لكن هذه المرة محاولا ستر تفاصيل جسدها الجميل بمعطفها؛ ما أن أستوت واقفة وهي تُصلح من ملابسها حتى باغتته بفضول مُنتهِزَةً انشغالهُ بالنظر إلى جسدها :
إلى أين ؟!!
أجاب و عينيه البُنيتين تخترق عينيها :
الإسكندرية ..
قفزت من الفرحة متعلّقةً برقبته بكلتا ذراعيها ، و ابتعدت في لحظة خوفاً من لمسات يديه غير البريئة لجسدها….
قال مُعلّقاً :
الآن لاتخشين أن يرانا أحد ؟؟ !!
ردت وهي تغلق معطفها :
موقف * السوبر جيت *.. أناس تتقابل ..أناس تتوادع. ..أمر مألوف.. ،
تغيّر وجههُ للمرة الأولى في تلك الليلة وهو يقول :
أرجوكِ ليس وقتاً للحديث عن الوداع..
أكملت بفضول وهما في طريقهما لشراء تذكرتين :
لكنها الثامنة والنصف. مساءً؟؟!!
أجاب :
وماذا هناك ؟! ألم تخبري أولادك أنكِ ستبيتين مع والدتكِ الليلة ؟؟!
أكملت :
وأنتَ ماذا عنكَ ..؟ .. وزوجتِكَ وأولادك ؟؟ !! ..ماذا ستقول لهم؟؟
توقف قبل شباك التذاكر بخطوات عابس الوجه :
لو سمحتِ لا أريد الحديث في هذا الموضوع
اقتربت و احتضنت بكفيها الدافئتين كفيه الباردين :
آسفة..؛..لكن بالعقل ..أين سنقضي الليلة ونحنُ ..ونحنُ ونظرت للأسفل حيث حذائها الجلدي الطويل * البوت*…فباغتها..
سنتزوج ..في المُرسي أبو العباس
رفعت عينيها تطاير منها شرارات الفرحة وهي تمسح بأناملها النحيلة دموع الفرحة ..
استدار ليبلغ شباك التذاكر ، ثوانٍ وهي مازالت منتشية من السعادة عاد يخبرها وهو مخذول : لا تذاكر ..!!
تجاوزت صدمتها للحظة منتزعةً المُبادرة منه ، أخرجت بطاقتها الكاشفة عن منصب هام بأحد البنوك ، توجهت لنافذة المَنفَذ :
أشجان محمود … وقبل أن تُكمل.. قاطعها الرجل خلف زجاج المَنفذ بأدب :
صدقيني يا أستاذة الأمر ليس كما تظنين ، على بُعد أمتار في التحرير توجد مظاهرات ، واشتبكات مع الأمن ، والاتصالات غير مستقرة ، وأقرب للانقطاع ، ولدينا أوامر بوقف الرحلات بين القاهرة والإسكندرية..الأمر جِد خطير.. نصيحة انتظرا إلى صباح غدٍ الجمعة ..
..استدارا في صمت ، وقف صلاح مكتوف الأيدي ، لم يحسب لتصاعد الأحداث حساباً ..
بدأ سيل السيارات في الشارع ينتهي ، فَرِغ الموقف من الحافلات ؛ وفجأة
بَدد الصمت صوت إنفجارات ،.. احاطت خصره المشدود البطن بذراعيها خوفاً ..قال وكأنما يتحدث لنفسه :
صوت أعيرة نارية.. ؛ تحركا مسرعين من الشارع الخلفي لرمسيس هيلتون ، المُول الخاص بالفندق مغلق ، أمن الفندق والمُول مُسلحين بشكل كبير ؛..النظرات تفترسهما بين الشفقة ، والاستغراب ، وكأنهما اثنان ركبا آلة الزمن ليصلا إلى قلب معركة من معارك الحرب العالمية الثانية ،..
.. يحتضنها ويسيران مُسرعين في إتجاه ماسبيرو ، هَمست :
صلاح ..أنا مرعوبة ، ..أُريد العودة لبيتي وأولادي ..
..لم يدرِ لمَا صدمته عبارتها ، خوفها منطقي ، رغبتها في العودة لأولادها منطقي ، بدأ يتسرب لنفسه أن غير المنطقي في هذهِ الليلة هو ، وتلك الانفجارات ، و روائح الغازات المُسيلة للدموع ؛ .. بدأت تجهَش في البُكاء ، ضغطَ بكفهِ اليُمنى على ذراعها اليُمنى و بصوتٍ بين الغضب والحزن قال :
اهدئي ؛ تمالكَ نفسهُ للحظة، اتجه بها يميناً من بين أزقة وشوارع منطقة ماسبيرو القديمة نجحا في بلوغ محطة مترو جمال عبدالناصر ، هبطا السُلّم مُسرعين وجموع المنتفضين ذُعراً من جحيم المظاهرات تحث الخُطى مثلهما ؛ لأول مرة منذ قُرابة الساعة تشعر بالأمان ، بدأت تستعيد أنفسها ، تغيَّرت نظراتها من الخوف للرغبة كلما ضَمها إلى جنبه وهما يسيران تحت الأرض في اتجاه قضبان المترو، بينما تجمّد وجهه عن العمل ، فلا تُخبر ملامحه بشيء ، تُرى ماذا يشغله الآن ، ضياع ليلة مع حبيبته الجميلة ، أم فشل محاولة زواجه بمن أحبّ و يُحب …؟؟!!
..قطع حالة التفكير إدرَاكُهُما للقطار ، تدافع الجميع في مشهد لا يُنسى بين الذُعر والطمأنينة .
.. و رغم ضيقهِ بكلماتهامنذ ساعة أولادي ، إلاّ أن اعتذارها له بدفعها كامل استدارة جسدها ليبيت في كنفه أرضاه ، غالبَ ابتسامة الرضا، لحظة أن ألتفتت عينيها لتصطدم بعينيه…ولكن الصدمة حقاً حدثت للجميع بعد دقيقة، فالقطار لم يتوقف في محطة أنور السادات – التحرير ، الكثير من البشر أغلبهم شباب وشابات محتمين بمحطة مترو أنور السادات من الصِدامات في التحرير ، استشعر الجميع أنّ الأمر جِد خطير.
..لم يتمكّنا حتى ليلتها من المُصافحة ، فبلوغ المعادي كان حلماً لهما منذ ساعة ؛ أوقف السيارة الأجرة ،فتح لها الباب ، لم يتمالك عينيه من استراق النظر لجسدها وهي تركب ، نظرت له مُبتسمة لحدود الضحك لعلمها بمغزى نظراته ، نقد الأجرة للسائق وانصرف.
هو ذاته يناير…
وإنهُ صلاح لم يتغير كثيراً ، نفس نبرة الصوت الرخيم الجذّاب ، قِصَصهُ التي لاتتوقف..
هكذا حدثت أشجان نفسها .بينما كانت تسترق النظر له وهو يتحدث لأحد أبنائه ، عن كيف قضى ليلة الثامن والعشرين من يناير في التحرير وكيف استطاع بِحُسنِ تصرفه النجاة هو وصديقه أحمد من أحداث يناير ، وزوجته الريفية الملامح والهيئة تؤكد على كلامه ،.. أرادت تحيته هي أيضاً وإخبار ابنه أن صديقه اسمه أشجان وليس أحمد ،
و أن تشكره على عقلانيته في تلك الليلة الساخنة من يناير التي حفظت لها بيتها من الخراب ونفسها من الضياع ، فانتصبت واقفة كفرس عربي جامح ، واستدارت موجّهةً جسدها الممتلئ الذي زادته السنون أنوثة ، تجاه المُستغرِق في الحديث أمامها ، مع بقاء وجهها مواجهاً لابنتها التي صارت شابة فاتنة كأمها ، والتي تفاجأت بوقوف أمها فبادرت:
أمي !..لماذا وقفتِ ، هذهِ محطة جمال عبدالناصر !! وليست الشهداء ؟!
أجابتها وهي تتحرك نحو الباب وابتسامتها تصل لذروتها دون النظر إليه :
أريد التمشية في ماسبيرو..
نزلت وابنتها ولا زالت تبتسم ،ولم تلتفت إليه ، فهي لا زالت تشعر بناظريه..و.. بيديه وهي تحتضنها و معطفها الصوفي كما فعل في تلك الليلة من يناير الساخن..

مايسة عبد الحميد

نائب رئيس مجلس إدارة الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى
error: <b>Alert: </b>Content selection is disabled!!