عبادة جبر الخواطر .. الشيخ حازم جلال : من علماء الأزهر الشريف
عندما يطرق آذننا مصطلح “عبادة” فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا الصلاة والصيام وبر الوالدين وصلة الأرحام وغيرها من العبادات التي تتبادر إلى الذهن عادة، ورغم عظم شأن هذه العبادات وكبير فضلها إلى أن هناك عبادات أصبحت خفية – ربما لزهد الناس بها وغفلتهم عنها- وأجر هذه العبادات في وقتها المناسب يفوق كثيراً من أجور العبادات والطاعات، ومن هذه العبادات عبادة “جبر الخواطر”.
وجبر الخواطر خلق إسلامي عظيم يدل على سمو نفس وعظمة قلب. وسلامة صدر ورجاحة عقل، يجبر المسلم فيه نفوساً كسرت وقلوبا فطرت وأجساماً أرهقت. وأشخاص أرواح أحبابهم أزهقت، فما أجمل هذه العبادة. وما أعظم أثرها، يقول الإمام سفيان الثوري: “ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلي ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.
ومما يعطي هذا المصطلح جمالاً أن الجبر كلمة مأخوذة من أسماء الله الحسني. وهو “الجبار” وهذا الاسم بمعناه الرائع يطمئن القلب ويريح النفس فهو سبْحانه “الذي يجبر الفقر بالغنى. والمرض بالصحة. والخيبة والفشل بالتوفيق والأَمل. والخوف والحزن بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فهو جبار متصفٌ بكثرة جبره حوائج الخلائق”. تفسير أسماء الله للزجاج (ص: 34).
ومما يؤسس لجبر الخواطر في القرآن الكريم:
قوله تعالى : {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ. وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } يوسف:15
فكان هذا الوحي من الله سبحانه وتعالى لتثبيت قلب يوسف –عليه السلام. ولجبر خاطره؛ لأنه ظلم وأوذي من أخوته والمظلوم يحتاج إلى جبر خاطر، لذلك شرع لنا جبر الخواطر المنكسرة.
وقد ورد في صحيح مسلم أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تلا قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبراهيمَ : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عصاني فإِنك غفور رحيم } إبراهيم :36 وهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يبكي ذات يوم
ويرفعَ يديهِ ويقول اللهم ! أمتي أمتي وبكى . فقال اللهُ عزَّ وجلَّ : يا جبريلُ ! اذهب إلى محمد، – وربك أعلمُ -، فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريلُ عليهِ الصلاة والسلام فسأله. فأخبره رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بما قالَ . وهو أعلمُ . فقال اللهُ : يا جبريلُ ! اذهبْ إلى محمدٍ فقلْ : إنَّا سنُرضيكَ في أُمَّتكَ ولا نَسُوءُكَ .
نماذج عملية لجبر الخاطر
ومن واقعنا العملي نماذج كثيرة شرعها ديننا الحنيف لجبر الخواطر وتطييب النفوس، لأجل ذلك كان من السنة تعزية أهل الميت وتسليتهم ومواساتهم وتخفيف الألم الذي أصابهم عند فقد ميّتهم.
وفي قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} سورة الضحى9-10 ، أجمل تطييب للخاطر وأرقى صورة: “وكان من توجيهات ربنا -سبحانه وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم، فكما كنت يتيماً يا محمد -صلى الله عليه وسلم-،( فأما اليتيم فلا تقهر)
وقد عاتب الله نبيه محمد-صلى الله عليه وسلم- لأنه أعرض عن ابن أم مكتوم وكان أعمى عندما جاءه سائلا مستفسرا قائلا: علمني مما علمك الله، وكان النبي – عليه الصلاة والسلام- منشغلاً بدعوة بعض صناديد قريش، فأعرض عنه، فأنزل الله: عَبَسَ وتولى*أَنْ جاءه الأعمى*وَمَا يُدْرِيكَ لعله يزكَى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى سورة عبس
هذه المواقف وغيرها تدعونا للإحسان إلى الخلق وجبر خاطرهم، فما أجمل أن نتقصد الشراء من بائع متجول في حر الشمس يضطر للسير على قدميه باحثاً عن رزقه مساعدة له وجبراً لخاطره، وما أروع أن نقبل اعتذار المخطئ بحقنا وخصوصاً عندما نعلم أن خطئه غير مقصود وأن تاريخ صحبتنا معه طيب نقي، فالصفح عنه ومسامحته تُطَيِّبُ نَفسه وتَجبرُ خاطره، وتبادل الهدايا بين الأقارب والأصدقاء والأحباب من أجمل ما يدخل الفرحة للقلب والهناء للنفس وهي سبيل الحب، وبساط الود، وطريق الألفة، لقوله – صلى الله عليه وسلم-: “تهادوا تحابوا” البخاري.
وينتظر البعض قضاء حاجة، ويكتفي البعض الآخر بابتسامة، فعلينا أن نجتهد بإدخال الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا ولا نبخل على أنفسنا، فالصدقة والخير نفعه يعود إليك.