فدائيون أم قتلة مأجورين .. بقلم: دكتور ماهر جبر
بطعم الموت بطلقات الرصاص يلقى النقراشى باشا نفس مصير صديق عمره، ورفيق كفاحه الوطني أحمد ماهر باشا. وإنما فقط بفارق ما يقرب من أربع سنوات، فنحن الآن في عام ١٩٤٨، بينما حادثة مقتل ماهر باشا كانت عام ١٩٤٥. لو عدنا من ذلك التاريخ للوراء عشرون أو ثلاثون عاماً، لوجدناهما شابين ثائرين يحملان رأسيهما كل يوم لحبل المشنقة حباً وفداءً لهذا الوطن، ولا عجب، أليس هؤلاء من رباهم. وأخرجهم من مدرسته الوطنية الزعيم خالد الذكر سعد زغلول، أليس هؤلاء من كونوا ضلعاً أساسياً في الجهاز السري لثورة ١٩.
والذي كونه عبد الرحمن فهمي. وقاموا من خلاله بعمليات فدائية كثيرة ضد الإنجليز؟. أليس هو النقراشي القائل للإنجليز في مقر الأمم المتحدة، أخرجوا أيها القراصنة من بلادي. فما الذي حدث. وحولهما من رموز وطنية ليصبحوا موضع ريبة وشك من بعض المصريين، بل. ومن أغلب القوى الوطنية. فتبيح بعض الفئات قتلهم بدعوى خيانتهم وممالئتهم للإنجليز،
هل المناصب التي شغلوها حولتهم من ثائرين فدائيين إلى حكام ديكتاتوريين!!!
أم أنهم تولوا هذه المناصب بمباركة الإنجليز، فأصبحوا طوع أمرهم. وكان عليهم رد الجميل؟، وقد يصح أن يكون السؤال بشكل آخر وهو. هل كان محمود العيسوي، عبد المجيد حسن شباب وطني ثائر. أم أنهم قتلة مأجورين، جندتهم القوى الخائنة والمخابرات البريطانية لتحقيق أهداف بعينها؟، أسئلة محيرة نحاول الإجابة عليها في هذا المقال. وليظل هذا الأمر قبل ذلك، بعده. علمه عند الله، لكننا نحاول جاهدين كشف الحقيقة أو حتى محاولة الإقتراب منها.
بداية نعرض للسبب أو الزريعة التي شكلت عاملاً هاماً في مقتل النقراشي باشا، بلا شك أن يد الأخوان قد تلطخت بدماءه. فإن كنا قد نفينا عنهم هذه التهمة حال إغتيال أحمد ماهر باشا، فإننا الآن نلصقها بهم دون ظلم لهم أو تجني عليهم. واعتراف عبد المجيد حسن يؤكد ذلك. حتى ولو خرج المرشد العام حسن البنا. وقتها ينفي ذلك قائلاً كلمته الشهيرة عن قتلة النقراشى باشا (ليسوا إخوانا، وليسوا مسلمين).
لأن مما ذكر في ذلك أن هذا التصريح. هو ما جعل عبد المجيد حسن، يطلب سماع أقواله مرة أخرى معترفاً على أشخاص لم يكن ينتوي ذكرهم. لشعوره بتخلي الجماعة عنه، فما الذي جعله يقدم على فعلته هذه؟.
بداية التحقيقات في التحقيقات معه ذكر أنه قتل النقراشي باشا لقراره الذي اتخذه في يوم ٨ ديسمبر ١٩٤٨، بحل جماعة الإخوان المسلمين وشعبها. وغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها وضبط أوراقها ووثائقها وسجلاتها ومطبوعاتها وأموالها، وكافة الأشياء المملوكة لها.
مشهد الإغتيال:
اليوم هو الثلاثاء الموافق 28 ديسمبر ١٩٤٨، الساعة الآن العاشرة صباحاً. القاهرة شوارعها نظيفة، تخلو من المُشاة إلا قليل، فرياح الشتاء الباردة تلفح الوجوه. فترسم عليها تفاحة حمراء، على جانبي الشوارع تتدلى أشجار الفاكهة والورود من قصورها، كأنها تمد يدها مصافحة المارة. تتمايل يمنة ويسرة، فتُسقط ثمارها، وتُنثر روائحها الذكية كأنها فرح بنصر طال إنتظاره يوزع هداياه على أهل المكان، غير أن سماؤها ملبدة بغيوم داكنة تكاد تظلم أحياؤها، وحواريها. منذرة عن شر يقع، حزن قادم لا راد له، ولا دافع من دون الله، وعلى مقهى في شارع مقابل لوزارة الداخلية. يجلس شاب على مشارف العقد الثالث، يرتدي ملابس ضابط شرطة، ويرتعد ليس فقط من برد الشتاء. بل لتوجسه من حدث يُرتَقب ويقترب وقوعه، وهو المكلف بتنفيذه
إقتراب هدف الوصول:
ثم يأتيه من يبلغه بإقتراب هدفه من الوصول، فيزداد توتراً وقلقاً، لكن حانت اللحظة، ولابد له من تنفيذ ما أقدم عليه، تحرك من مكانه متعجلاً، وصعد سلم وزارة الداخلية فأدى له حراسها التحية، وظل يترقب هدفه. الذي وصل بالفعل، وها هو النقراشى باشا يسير إلى حتفه ومصيره المحتوم. أقترب من مبنى وزارة الداخلية، التي أسند إدارتها لنفسه، بجانب كونه رئيساً للوزراء، فجمع بذلك بين المنصبين، إقترب منها وهو لا يعلم أن ملك الموت ينتظره عند المصعد، فما أن دخل من باب الوزارة وإعتلي درجات سلمها الداخلي، يحيط به حرسه، حتى جاءه رسول الموت في صورة عبد المجيد أحمد حسن، الطالب بكلية الطب البيطري.
والذي تخفى في زي ضابط شرطة، فحيا النقراشي باشا، الذي رد عليه التحية مبتسماً، ثم إستدار، وما أن هم بركوب المصعد، حتى أطلق عليه ثلاث رصاصات أردته قتيلاً في الحال. وخرجت الصحف في المساء تتحدث عن ثائر قتل أخلص الوطنيين، إذاً نحن مازلنا فقط أمام خلاف في الرؤى يوصل للقتل وازهاق الأرواح، كما حدث عند مقتل احمد ماهر باشا لكننا قطعاً لا نستطيع سلب وطنية أحدهم، لا القاتل، ولا المقتول.
يقول مصطفى أمين تلقيت نبأ إغتيال النقراشى باشا فلم أبكي ولم انتحب، لأني بكيته بالدمع الثخين قبل ذلك بأسبوعين. فالنقراشي كان يعلم بموته قبل أن يموت، كما نعاه كلاً من العقاد، الشاعر الكبير علي الجارم. وغيرهم كثير من الأدباء والشعراء.
يوم المحاكمة:
وفي يوم المحاكمة، أنهى أحد المحامين مرافعته قائلاً: يا حضرات المستشارين والضباط العظام، ….. أنتم لا تمثلون سياق النقمة، بل أنتم رسل العدل الذي لا يعرف غضباً ولاحقداً، ولقد بسطت لكم من أسرار الأمور ما يجعلني لا أقنع بالبراءة بل أريد براءة مسببة، أريد منكم يا حضرات المستشارين أن تنددوا بالجرائم ومرتكبيها، مهما سما مركزهم وعلا قدرهم قولوا لهم إن الخروج على القانون يؤدي إلى الفوضى والجريمة ولا يفتكم أن تنددوا بالتعذيب الذي وقع على المتهمين وأن ذلك لو استمر لعاد بالبلاد إلى عصور الفوضى والهمجية.
أما أنتم يا أبنائي وإخواني المتهمين فليعلم الله أني قد أديت واجبي نحوكم قدر استطاعتي وإنني وأنا أترك هذا الحرم المقدس، فإنما أغادره آمنا مطمئناً عليكم فإياكم والجزع والقلق وأياً كان الحكم الذي سيقع عليكم فهو حكم الله لا حكم هؤلاء القضاة، فاستقبلوه بصدور رحبة وثغور باسمه، والله معكم والله معهم، والله معنا جميعاً، والسلام علكيم ورحمة الله وبركاته.
يوم صدور الحكم:
صدر حكم المحكمة العسكرية العليا، بجلستها العلنية المنعقدة في الساعة التاسعة والنصف الموافق (13 أكتوبر1949)، تحت رئاسة محمد محمد مختار عبد الله، وبعد الإطلاع على الأوراق وسماع المرافعات والمداولة قانوناً حكمت المحكمة حضورياً:.
أولاً: بمعاقبة عبد المجيد أحمد حسن بالإعدام شنقاً، وبمعاقبة البعض بالأشغال الشاقة المؤبدة، والبعض بالبراءة.