قصص قصيرة .. (( ممنوع الانتظار))

كتب / شريف محمد
..صف سيارته ذات الطراز الحديث إلى جانب سور ( الكورنيش)؛ السماء تفقد براءة لونها الأصفر ضاربة لحُمرةٍ مُريبة.
جالساً إلى مِقوَده ، المنفصل عن بطنه المُستدير بسنتيمتراتٍ ، عددها المُربع يساوي مساحة ما بقي في رأسه من شَعر ، و خلف زجاجٍ مُغبَر يتأمل العابرين للطريق من جهة (محطة الرمل)، وقد وجّه (رادر ) عينيه ليلتقط ذلك الرفيق لعمرٍ عتيق .
..خشيةً من مُخالفة الوقوف الخاطئ يتلفتُ حوله كلص ؛ … ذاتُ مِعطَفٍ بُني ساترٍ لجسدٍ ممشوق وقبعة مِن الفَرو الأسود، تنتزع ناظريه..، جمال إستدارة الساقين يحددهما خذاءٌ جلديٌ طويل ( بوت)..
…بدأ يتظاهر بالنظر إلى يمينه ، ليختلس للخمرية الهيفاء نظرات ، شَعرَ بجمالِ الموجِ لأول مرة رغم شدته ، أفُولُ الشمسِ يُكسِبُ الكون ظلاما من حوله ، ويبثُ في داخلهِ نوراً كان قد أخطأه منذ قُرابة العِقدَين ، لكن ( سحر) كانت أجمل ، أو هكذا كان يراها…، وإن كانت عجزاء قليلاً ، لكن ربما تحت المعطف رأيٌ أخر..
..نزعت نظارتها الشمسية مع أشعة الشفق الأحمر؛ أذان المغرب من جامع ( القائد إبراهيم) ، ردَهُ لواقعٍ لامهرب منه، ولا حيلة فيه غير الانتظار ، لقد غابت الشمس..
..ردد الدعاء (( أتِ سيدنا ….الوسيلة..والفضيلة..)) ، بترت كلمة ( الفضيلة) نظرته للجميلة المُنتظِرة ، جاذبةِ الأنظار .
..كثرة إلتفاتاتها هنا وهناك جعله يقلق بشأنها ، خطواتها ذات اليمين وذات الشمال ، وهو باسطٌ ذراعيه بالوصيد داخل سيارته ، جعله ينتقل من ساحة اللاعبين إلى ساحةِ الآباء المهتمين. ..
..فجأة مدت يدها إلى داخل حقيبتِها ألتقطت محمولها لتَنظر فيه مفجوعة ، فرغت منه الشحنات ، ..تضغطه بشده ، تحاول بعث النبض فيه ، ولكنه أبى إلاّ الغوص في السُبات…
..جُنّ الرجل ، قد شغفته حنيناً لماضيه ، فتح باب سيارته مندفعا خارجها ككرةٍ من صوف أزرق ، غير مُكترثٍ لزخات المطر التي بدأت تتساقط ، متقدمًا نحو (الرصيف) عند البحر عاجلها قائلاً :
((…أعطني هاتفكِ المحمول أشحنه في شاحن سيارتي…))
.نظرت إليه بعينيها الواسعتين العسليتين ، ولكمتهُ بنظرة سخط ، ناطقة بكل الغضب ، وإن لم تنطق ببنت شفاه…
..نظر لها وابتسم بهُيامٍ استهجنته، فاندفعت عابرةً للطريق ؛ الجميعُ من حوله يحدقون فيه، شَعَرَ بخجلٍ كطفلٍ لم يُدرك قبل الخلاء حاجته…
…استقر خلف مِقوده مرة ثانية ، أغلق بابه ، لكن بصره لازال يتبعها وسط العابرين، وعينيه تمسك بتلابيب معطفها…
.. انفجارضربة موجة قوية ، مع تزايد الأمطار جعلته يلتفت ذات اليمين ، فإذا بشابٍ طويل القامة ، مفتول العضلات ، منحوت تقاسيم الوجه ، يتلفت كالمجنون ، وكأنه النسخة المذكرة من تلك الجميلة….
..لم يتمالك نفسه ثانيةً واندفع بأقصى سرعة خارجاً من سيارته ، أمسك بيد الشاب جذبهُ بقوة ، في طوفان من الدهشة ، عبر به الطريق مسرعاً ، بلغ الجانب الآخر ، صرخ بصوته الأجش و هو يدفع جموع المارة :(( سحر..سحر..لقد حضر ..أقسم بالله ..حضرتُ.. حضرتُ ..ولم أجدكِ…))
..نجحت صرخاته في فتح الزحام لتظهر ذات المعطف البُني..توقف أمامهاو هو يلهث ، وتتقطّع أنفاسه وفي يده الشاب…..صرخ : ((.. سامحيه لقد وصل متأخراً ، لقد كان يبحثُ عنكٍ كالمجنون ، أقسمُ بالله بحثتُ كثيراً…))
…نظرت السمراء إليه مجدداً بغضب، وأطلقت زفرة تنين ، رغم حرارتها إلا أنه تجمّد خجلاً واندفعت إلى طريقها ، دافعة حلقة البشر المجتمعين….
…استل الشاب ذراعه من بين أصابع يده التي جمدتها الصدمة ، ابتسم و هو يربت على كتفه و مِعطَفِه المتشبّع بالمطر ضاعت زرقته من كثرة المطر ،غاب الشاب وسطَ الزحام…
..بخيبة أمل و يأس جر أذيال حسرته، لم تكن كما ظن ، لقد تركته ورحلت بعد طول انتظار….
….. عاد للسيارة عند ( الكورنيش ) ناظراً للأرض عند خطواته ، تجحظ عيناه ،بين ندمٍ وخجل .
.. فإذا بكتلة لحم بشرية أخرى داخل سيارته متكوِّمة على المِقعد المجاور له..بادره صديقه الستيني :
((… أجننتَ يا رجل ؟!!..كيف تترك السيارة وتمضي ؟!..ألا تعلم أنه ممنوعٌ الانتظار هنا..؟؟!!))
…رد بكل خيبات السنين : (( ..حقاً.. هُنا ممنوعٌ الانتظار !!..))