مقالات

محاكمات هزت وجدان المصريين .. بقلم : د. ماهر جبر

محاكمات هزت وجدان المصريين .. بقلم : د. ماهر جبر

محاكمات هزت وجدان المصريين.
ماهر جبر

(إن علاقة مصر مع بريطانيا مثل الزواج الكاثوليكي لا انفصام فيه، عبارة قتلت صاحبها).
نعود للحديث عن المحاكمات التي شغلت الرأي العام في مصر، بل بعضها استحوذ على إهتمام العالم أجمع، مؤكدين أنها ليست بالضرورة محاكمات صادرة بالإعدام كي تكتسب هذه الشهرة، كما أنه لا يتحتم أن تكون إجراءاتها تمت، وأحكامها صدرت من قاعات المحاكم كالمعتاد، إنما قد يكون القاضي هو الجلاد كما حدث في دنشواي أمام منازل المحكوم عليهم، وأمام أعين ذويهم، وقد يكون القاضي والجلاد أيضاً هم رعاع الشعب كما حدث مع الثائر العظيم مصطفى البشتيلي أحد أهم ثوار القاهرة في ثورتها الثانية زمن الحملة الفرنسية، والذي دافع عنهم بماله وعتاده، فكان جزاؤه أن أركبوه مشبوحاً على حمار ووجهه للخلف، وطافوا به في شوارع القاهرة، يبصقون عليه كلما مر أمامهم، ثم إنهالوا عليه ضرباً بالعصي حتى فاضت روحه الى بارئها تشتكي وتدعو على ظالميها.

محاكمات هزت وجدان المصريين.
أمين عثمان باشا

غير أنه مابزغت فكرة هذه المقالات في عقلي إلا ووهبتها للكشف والتنقيب عن المنسيين من هؤلاء الثائرين، اللذين بذلوا أرواحهم مطمئنين راضيين وقانعين بأنها رسالتهم التي يجب عليهم القيام بها دون انتظار منهم لثمن أو مقابل، وإن تم تعمد التجهيل بهم وعدم ذكرهم من قريب أو بعيد، وثائرنا وبطلنا اليوم هو إبن وكيل وزارة المواصلات في وزارة مصطفى النحاس باشا عام 1946م، فوالده يحمل لقب باشا، إذاً هو من الأثرياء، ووالده من أعيان ذلك الزمان.

فلماذا قاوم الإنجليز وأعوانهم وكون خلايا سرية لمناهضتهم، لماذا لم ينعم برغد العيش في كنف أسرته بالغة الثراء، ما الذي دعاه للعيش مشرداً هائماً على وجهه في مدن مصر وقراها، بل في دول أخرى غير مصر، إلا أن يكون عاشقاً لتراب وطنه، إن حب هذا الفتى لبلاده حب صادق لا زيف فيه، ولا رياء، ثائرنا اليوم هو حسين توفيق قاتل أمين باشا عثمان فمن هو وما هي حكايته ؟؟.

أشهر قاتل سياسي في تاريخ مصر

هو أشهر قاتل سياسي في تاريخ مصر، أفلت من الإعدام ثلاث مرات، هو شاب ثائر إبن أسرة أرستقراطية والده توفيق باشا أحمد وكيل وزارة المواصلات، ولد عام 1925 وتعلم فى مدرسة الفرير، ثم كون مجموعة فدائية للكفاح المسلح ضد الإنجليز، وجدير بالذكر أن السينما جسدت حكايته من خلال رائعة إحسان عبد القدوس، التي تم إنتاجها من خلال فيلم في بيتنا رجل، والذي قام ببطولته الفنان عمر الشريف، وجسد فيه شخصية حسين توفيق(ابراهيم حمدي)،والواقع أن إحسان عبد القدوس هو الشخص الذي أخفى حسين توفيق في بيته، وهذا الدور جسده الفنان حسن يوسف (محيي) من خلال الفيلم في أول ظهور له على الشاشة.

محاكمات هزت وجدان المصريين.
عمر الشريف وتوفيق الدقن

أما عن المقتول أمين عثمان باشا فقد ولد في الإسكندرية عام 1898م، ودرس وتخرج فى جامعة أوكسفورد. أشهر جامعات بريطانيا وتولى العديد من الوظائف، حتى ولاه النحاس باشا وزارة المالية فى يونيو 1943. وفى هذه الفترة، أنشأ أمين عثمان نادى النهضة بالعقار رقم 14 بشارع عدلى فى القاهرة. وتبدأ الحكاية عندما أدلى أمين باشا عثمان بتصريح كان سبباً في قتله، ذلك لما إشتهر عن صلته الوطيدة بالإنجليز. حيث قال إن علاقة مصر مع بريطانيا كالزواج الكاثوليكي لا إنفصام فيه، تلك إذاً هي العبارة التي قتلت صاحبها، فإستشاطت الخلايا السرية، والقوى الوطنية جميعها غضباً. ومنها الخلية التي يتزعمها، حسين توفيق، وأخوه سعيد، وقرروا التخلص منه. وبدأ التفكير في اغتيال أمين عثمان عن طريق إنضمام عضوي الخلية عبد العزيز خميس. ومحجوب علي محجوب إلى الرابطة التي يرأسها أمين عثمان. بهدف رصد تحركاته، ومعرفة كل أخباره، وتبليغها لأعضاء الجمعية السرية.

محاكمات هزت وجدان المصريين.
ارشيفيه

مشهد الإغتيال

اليوم هو السبت الخامس من يناير عام ١٩٤٦، الساعة هي السادسة مساءً، الجو قارس البرودة. المكان بجوار العقار رقم ١٤ شارع عدلي وسط القاهرة. حيث مقر رابطة النهضة، وصل الآن الى مقر الرابطة عبد العزيز خميس، ومحجوب علي محجوب، ومكثا فيها. حسب ما ذكرته جريدة البلاغ. بينما ينتظر حسين توفيق، ومحمود يحي مراد أمام العقار في إنتظار إشارة ببطارية يعطيها لهم محمد أحمد محجوب تفيد وصول سيارة أمين عثمان.حسين توفيق يمشي مرتعداً من البرد، وربما مما هو مقدم عليه، الوقت يمر عليه ثقيلاً كأنه دهر. الناس من حوله تهرول مسرعة هرباً من البرد القارس. 

أنذار السماء بنزول المطر

أو من إنذار السماء لهم بنزول المطر، يريد أن ينتهي من مهمته. فأثقل مايكون على الإنسان هو لحظات الإنتظار، يتمنى انتهاؤها ولو كانت تحمل له في نهايتها كل شر.إنه يحمل رسالة الموت بين يديه، ويريد أن يكون أميناً في تبليغها لصاحبها، الوقت بلغ السادسة والنصف. جاءت إشارة الموت من ضوء بطارية محمد الجوهري. وقفت الآن عربة في نفس المكان ونزل منها أمين باشا عثمان، لم يدري أنه جاء لحتفه، لكنها الأقدار كُتبت ولا راد لها، فقد يبيت الإنسان منا سليماً في فراشه، ملأته الأحلام والأماني بالأمل الطويل في حياته القادمة. ثم لا يصحو من نومه، وقد يخرج من بيته صباحاً فلا يعود إليه ثانية.

محاكمات هزت وجدان المصريين.
امين عثمان باشا

دخل أمين باشا عثمان إلى داخل العقار فوجد المصعد معطلاً، فصعد درجات السلم، ولم يكد يتخطى درجتين أو ثلاث .حتى ناداه حسين توفيق بإسمه، التفت إليه، فانطلقت ثلاث رصاصات استقرت في صدره فجلس على درجات السلم مستغيثاً.

وفر الجاني مسرعاً فتبعه المارة لكنه أطلق الرصاص من مسدسه في الهواء، ثم رمي بقنبلة كانت معه مما اضطرهم للتوقف عن ملاحقه. وفي فجر نفس اليوم كانت روح أمين باشا عثمان قد فاضت إلى بارئها، تم القبض على حسين توفيق فإعترف بكل شيء، وعلى كل أعضاء الخلية السرية. والسبب في إعترافه السريع كما يقول السادات في كتاب البحث عن الذات، ‬أن وكيل النيابة لجأ إلي‬ حيلة حتى‬ يدفع حسين توفيق إلي‬ الإعتراف بما جرى.وهو أنه أوحي‬ للصحف أن الحادث وقع إنتقاماً لوجود علاقة آثمة بين أمين عثمان، ووالدة حسين توفيق، فإعترف على الفور لتبرئة والدته.

صدور حكم المحكمة

ويوم صدور الحكم قضت المحكمة حضورياً طبقاً‬ لأوراق القضية‬1129‬لسنة‬1946م. بمعاقبة المتهم الأول حسين توفيق بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، ومعاقبة كلاً من محمود يحي مراد. محمد أحمد الجوهري، عمر حسين أبو علي، عبد العزيز خميس، بالسجن لمدة خمس سنوات. ومعاقبة محجوب علي محجوب بالسجن ثلاث سنوات.

ومعاقبة المتهم محمد محمود كريم بالحبس سنتين، وبراءة كلاً من محمد أنور السادات، محمد ابراهيم كامل. سعد الدين كامل، نجيب حسين فخري.

ومن المعروف أن حسين توفيق إستطاع الهرب الى سوريا، ثم عاد الى مصر ثانية، واتهم في محاولة إغتيال عبد الناصر، وأعتقل مرة أخرى، وظل معتقلاً حتى جاء صديقه السادات رئيساً لمصر. ومن الغريب أنه رفض إخراجه من المعتقل، رغم أنه توسل إليه ملتمساً أن يصدر عنه عفواً نظراً لظروفه الصحية. وخرج أثناء حكم مبارك، لكنه توفي بعد خروجه بأشهر قليلة.

حسين توفيق وطنيا خالصا

لكن يبقى سؤال بلا إجابة وهو هل كان حسين توفيق وطنياً خالصاً، أم تم التغرير به، وهل كان أمين عثمان خائناً. أم أراد أن يكون حلقة الوصل في المفاوضات بين مصر وبريطانيا تحقيقاً لمصالح مصر ؟، كل ذلك علمه عند الله، وعنده تجتمع الخصوم.

محاكمات هزت وجدان المصريين.
دكتور ماهر جبر

وفي النهاية كان ومازال خلاف الرؤى يؤدي إلى سفك الدماء.

شاهد ايضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى