الأخوان عنايت ومقتل السير لي ستاك “10”.. بقلم : د. ماهر جبر
“ان الرصاصات التي قتلت السردار، هي رصاصات وُجهت الى صدري أنا” الزعيم خالد الذكر سعد زغلول .
ما زال ذكر ابراهيم الورداني يفرض نفسه علينا حتى بعد إستشهاده بأربعة عشر عاماً، فنحن الآن في عام 1924م. وهاهم أعضاء المنظمة الفدائية التي أسسها يمارسون جهادهم من أجل حرية وطنهم. فقاموا بإغتيالات كثيرة في صفوف جنود الإنجليز، مما رفع سقف طموحات هم. والتي أومأت اليهم بعمل كبير يُصيب رأس بريطانيا العظمى بالدوار. ألا وهو إغتيال المندوب السامي البريطاني (اللورد اللنبي).
فحاولوا كثيراً وضع الخطط التي تمكنهم من تحقيق حلمهم هذا. لكن حال بينهم وبين هذا الحلم، شدة الحراسة وكثافتها حوله، مما خيب آمالهم وأصابهم بإحباط شديد. إلا أنه وعلى غير انتظار فقد لاح لهم في الأفق هدف آخر لا يقل عنه أهمية. حيث علموا بوصول السردار العام (الحاكم العام للسودان) الى مصر وهو في طريقه الى السودان. فوجدوه صيداً ثميناً يستحق عناء الصيادين، فمكثوا له بالمرصاد .
السير لي ستاك
اليوم الأربعاء 19 من نوفمبر 1924م الساعة الواحدة والنصف ظهراً. تُرسل الشمس أشعتها الذهبية الحانية في هذا الوقت من العام. مصحوبة بنسمات الخريف التي تداعب أوراق الشجر فتصدر حفيفها كأنه ترانيم صادرة عن أوتار الجيتار الراقصة، يظهر في الصورة السير لي ستاك. خارجاً من وزارة الحربية متجهاً الى منزله في الزمالك. ركب السيارة التي تُقله وأغلق عليه سائقها الباب.
وما أن بدأت سيارته بالتحرك حتى أعطى عبد الفتاح عنايت الطالب بمدرسة الحقوق. إشارة البدء لأخيه عبد الحميد عنايت طالب مدرسة المعلمين العليا الواقف عند شارع القصر العيني. فألقى بقنبلة كان الهدف منها إخلاء المارة للشارع، وتأمين الهروب في نفس الوقت عن طريق سيارة يقودها محمود راشد.
بينما أطلق كلاً من ابراهيم موسى، علي ابراهيم، راغب حسن، رصاصات الموت على السير لي ستاك، فأُصيب بجروح خطيرة هو وسائقه. وحارسه الخاص، وفي نفس الوقت حاول أحد جنود الحراسة أمام وزارة الحربية مطاردة الجنة. فأطلقوا عليه الرصاص وأردوه قتيلاً في الحال، وفي منتصف الليلة التالية. يوم 20 نوفمبر توفي السير لي ستاك متأثراً بجراحه. وكانت هذه أول حادثة يُقتل فيها ضابط إنجليزي كبير مما زاد من غضب إنجلترا.
شروط عقابية
فما كان منها إلا أن فرضت شروطها العقابية القاسية على مصر ممثلة في إنذار حكومة سعد زغلول بدفع دية تُقدر بنصف مليون جنيه في خلال أربع وعشرون ساعة. إنهاء عمل القوات المصرية وعودتها من السودان، سرعة القبض على الجناة ومحاكمتهم. إقامة جنازة رسمية للسردار يسير فيها الوزراء بالملابس الرسمية. وزيادة الأرض المزروعة في السودان. وبالتالي نقص كمية المياة المارة لمصر مما يؤثر على الزراعة بها .
أضحى سعد زغلول في مأزق كبير، حيث قبل بعض بنود الإنذار ورفض البعض الآخر، فقام بدفع الدية. كما حضر هو وأعضاء حكومته الجنازة بالزي الرسمي. ثم وجه كلمة رسمية للأمة نشرت نصها جريدة الأهرام مفادها أن سعد زغلول وصف الحادثة. بأنها أشد الفظائع وأشنعها ومن أسوأها أثراً على سمعة البلاد وشهرتها. وناشد المصريون بأن كل من يعرف شيئاً عليه أن يقدمه الى إدارة الأمن العام. وليعلم كل فرد أن هذا يُعد عملاً وطنياً وخدمةً جليلة للبلاد. ويعلمون أن الإلتجاء الى العنف والإجرام أكبر خيانة للوطن والقضية المقدسة.
المندوب السامي
أصر المندوب السامي على تنفيذ كل بنود الإنذار، مما اضطر معه سعد زغلول آسفاً لتقديم أستقالة حكومته. وقال قولته التي صدرنا بها المقال (ان الرصاصات التي قتلت السردار، هي رصاصات وُجهت الى صدري أنا). وتم تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة احمد زيور باشا. وكان وزير داخليتها اسماعيل صدقي. فجد في طلب الجناة وأعلن عن مكافأة قيمتها عشرة آلاف جنيه. زيدت فيما بعد الى عشرين ألف. لمن يدلي بأي معلومات عن الجناة، غير أن التحريات لم تصل الى شيء.
وكادت القضية تُقيد ضد مجهول، إلا أنه في كل زمان يوجد الخونة ويوجد الشرفاء. والشرفاء هم من يدفعون الثمن. والخونة هم من يجنون المكاسب، حيث طلب أحد المعتقلين ويدعى محمود اسماعيل موظف بوزارة الأوقاف. مقابلة وزير الداخلية بمفرده وأدلى له بمعلومات ساعدت في القبض عليهم. كما أن اسم الهلباوي ظهر من جديد في هذه القضية. فإذا كان الهلباوي رمزاً للخيانة في دنشواي، فإن الهلباوي أيضاً رمزاً للخيانة هنا.
وإن كان الأول غير الثاني، فهلباوي قضيتنا هو محمد نجيب الهلباوي المدرس بالجمعية الخيرية الإسلامية. كان معتقلاً في قضية محاولة الإعتداء على السلطان حسين كامل. لكن العملية لم تنجح واعتقل فيها محمود عنايت الأخ الأكبر للشقيقين عنايت، وساءت صحته في المعتقل فأفرج عنه. وتوفى بعد بضعة أشهر من خروجه من المعتقل. إلا أن الهلباوي خرج من المعتقل وهو أكثر حنقاً على الثوار من الإنجليز.
فبعد أن كان ثائراً يضحي من أجل وطنه بدمه، أصبح مستعداً لبيع كل شيء مقابل المال والجاهل. ويُقال ان ذلك يعود لكونه خرج من المعتقل فوجد زملائه قد فاقوه في وظائفهم بمراحل. ومنهم محمود فهمي النقراشي، فوشى به حتى قُبض عليه. وأبلغ عن الجميع، ثم قبض عشرة آلاف جنيه أكمل بهم تعليمه في أوربا .
إعتراف سائق السيارة
من الإعترافات التي ساعدت في القبض على الجناة أيضاً، إعتراف سائق السيارة تحت وطأة التعذيب. حيث وجدوا أن ما معه من نقود يزيد عما سجله عداد السيارة بجنيه. فإعترف أنه حصل عليه مقابل التحرك معهم في هذا اليوم. وعبثاً حاول الأخوين عنايت الهروب عن طريق مرسى مطروح بالقطار. لكنهم وفي المسافة القصيرة المتبقية للوصول لليبيا. تم إلقاء القبض عليهم، كما قلنا بوشاية محمد نجيب الهلباوي. وأُعيدوا الى القاهرة، في إنتظار المحاكمة .
يوم المحاكمة :
تشكلت المحكمة برئاسة المستشار أحمد عرفان وعضوية محمد بك مظهر والمستر كرشو(مستشارين). وتولى الدفاع إبراهيم الهلباوي ووهيب دوس ومثل الاتهام محمد طاهر نور بك النائب العام، نظرت القضية في مايو 1925 أمام محكمة جنايات مصر. وكالعادة حاول المدعي العام بكل ما أوتيَ من قوة حجة الوصول لحكم الإعدام لجميع المتهمين فإنبرى سيادته قائلاً: ان وقائع الدعوى واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فالجناة هجموا على السردار وهو في سيارته عائداً من وزارة الحربية إلى بيته بالزمالك. وأطلقوا عليه عدة رصاصات أصابته في صدره ويده اليسرى وقدمه اليسرى، وكذلك أودت بحياته.
وأن الكابتن كامبل أصيب بجرح من رصاصة بالجانب الأيمن للصدر. وسائق السيارة فريد مارش أصيب بجرح من رصاصة في الساق اليمنى فوق الركبة مباشرة. وأن العسكري محمد عبد الموجود جرح من رصاصة بالجزء الأعلى من ساقه اليمنى. ولقد جاء في تقرير الطبيب الشرعي. أن السردار قد توفى بسبب الصدمة العصبية والنزيف الناشئين مباشرة من إصابته.
توقيع عقوبة الإعدام
ثم أكمل مرافعته مطالباً بتوقيع عقوبة الإعدام على الجميع، ذاكراً أن قصاص القضاء سيعيد إلى البلاد حظاً وافراً من السكينة. يمكنها من أن تسير في طريق التقدم والارتقاء، ذلك الطريق الكثير العثرات فإذا ما سرنا بحكمة وأصالة رأي قطعنا الطريق في وقت قصير قضى غيرنا في اجتيازه وقطعه قرونا. والحكمة تقتضي القضاء على هذا المرض وإن كان محصوراً الآن في فئة من الأغرار ضعيفي العقول. إلا أنه يُخشى أن تسري عدواه إلى شبابنا الناهض الذي تفخر به البلاد.
ولها فيه رجاء عظيم يُخشى أن تُسرب إليه هذه العدوى فتلتوي هذه الغصون الرطبة على الشر وهنا الطامة الكبرى. وها هي ذي نصيحة الملك المحبوب الساهر على سعادة بلاده. والعامل على إعلاء شأنها مسطورة في خطاب العرش يجب أن تكون منقوشة في صدر كل مصري لما فيها من العلاج الشافي.
والآن يا حضرات المستشارين قد قمت بواجبي في هذه القضية فأطلب منكم أن تستأصلوا اليوم هذا الجرثوم الفاسد. بأشد ما في القانون فليس في ذلك من قسوة إذ نحن في ظروف شديدة توجب ذلك.
مرافعة ابراهيم الهلباوي:
إبراهيم الهلباوي
يقول الهلباوي إنه قَبِل الترافع في هذه القضية عن هؤلاء التعساء المقضي في حقهم حتماً بالموت، خاصة وأن المحكمة لا تأخذ بأي دليل يخفف من العقوبة لهم، ثم أوضح أنه لا يتفق مع رئيس المحكمة بأنها لا تنظر في مسائل تتعلق بالسياسة، وانما فقط بالقضاء العادي، فهي تنظر الى هذه الجريمة بعيداً عن دوافعها السياسية، وأنه يرى من المستحيل فصل هذه القضية تحديداً عن أمور السياسة التي أثرت فيها كسبب ونتيجة .
ثم بدأ الهلباوي يستعطف المحكمة كعادته على المتهمين فقال: معظم العلماء يميلون الآن في أوربا التي نتعلم عنها إلى نبذ عقوبة الإعدام، فإليكم ولو أني أمام محكمة في أمة صغيرة غير معروف للغرب أنها تعطي حكماً وأمثلة للعدل، ولكن ليس للعدل وطن ولا للمحكمة دار إذا استطعت أن أقدم بين يديكم أن هذه العقوبة علاج خطير تنفر منه النفس إلا في الأوقات الخطيرة، فإني أستطيع أن أقول صونوا الهيئة الاجتماعية من خطر هؤلاء السفهاء.
انتفعوا من قوة هؤلاء الشبان فقد ينفعون إذا تابوا وقد تصلح المقادير من أمرهم، وخصوصاً أن عقوبة الجرائم السياسية مبنية دائماً على خطأ في التقدير، هؤلاء البغاة يذكرون أنهم ارتكبوا الجريمة بحسن نية فهم كالمجنون الذي يتوهم خوفه من البريء فيقتله………..، هم مرضى عُرضوا على طبيب ينظر في أمرهم دون غل ولا حقد، أنتم تعالجون مرضى الأرواح كما يعالج الطبيب مرضى الأجسام، من أجل هذا أستطيع أن أقول إن هؤلاء المجرمين يستحقون عدلكم فهذه الدار تمثل رحمة الله في الأرض، فأطلبها منكم لهؤلاء الأغرار.
الحكم بالإعدام
لم تلقي المحكمة بالاً لطلبات الهلباوي، وأخيراً صدر الحكم بإعدام كلاً من ( شفيق منصور المحامي _ عبد الحميد عنايت _ عبد الفتاح عنايت _ ابراهيم موسى الخراط بالعنابر _ محمود راشد مهندس التنظيم _ محمود اسماعيل الموظف بوزارة الأوقاف _ راغب حسن العامل بمصلحة التليفونات _ علي ابراهيم سائق السيارة المستعملة في القتل )، وذلك في 23 أغسطس سنة 1925 إلا أن الحكم خُفف على عبد الفتاح عنايت واستبدل بالأشغال الشاقة المؤبدة، ذلك لتهدئة الرأي العام الذي خرج في مظاهرات تندد بإعدام ثمانية رجال مقابل السردار البريطاني، ولأنه كان أصغر من شقيقه عبد الحميد وحتى لا يتم إعدام شقيقين، وأُفرج عنه من ليمان طرة في سنة 1944 وهذا سبب تسميته بالشهيد الحي وهو اسم شارع الآن في محافظة الجيزة، حقاً فإن عائلة عنايت إستحقت لقب العائلة الذهبية لما قدمته من أبطال ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن، لذا يجب إلقاء الضوء عليهم وتعريف الأجيال الحالية والقادمة بهذه النماذج المشرفة التي خرجت من أديم هذه الأرض الطيبة .