الدكتورة براءة جاسم تكتب جوارح السوشيال ميديا “فتنة العصر”
فى كلِّ يومٍ تحومُ جوارحُ شبكات التواصل الاجتماعي في انتظار فريسةٍ جديدةٍ لينقضوا عليها وينهشوا لحمَها حتى تهترئ،
يمضغُها الأول مرةً أو مرتين، ثم يبصقُها ليلتقطَها الآخرُ فيلعقُها، ويكرروا افتراسًا يظنونه مُباحًا، والعجيبُ أنّ هذا البعضُ مِن الناس يشكو الأمرَّيْنِ وينوحُ ويعاني
مِمَّن يتدخّلُ في حياته الشخصيّة ويحكمُ عليه زورًا وبهتانًا حسَبَ ما يقتضي الادّعاءُ دون سابقِ معرفةٍ لذلك المتهم، ثم نراهُ في مقدمةِ صفوف من يرمون الآخرين بأوّلِ حجر.
لماذا نأخذُ بالظاهر، وكأنَّنا وحدَنا نمتلكُ الحقيقةَ المُطلقةَ ونعرفُ تفاصيلَ وخبايا البشرِ وحياتِهم، والأسسَ التي عليها اتخذوا قراراتِهم،
فيتحوّلُ الجميعُ أمامَنا إلى متَّهمين، وننصُبُ أنفسَنا قضاةً عليهم، نمتلكُ وحدَنا دار الحُكم فنُشرّعُ ونحكمُ على مَن أصابهُ الدورُ في طابور المتهمين المعروضين على رأينا العام فمنهم من لقى مصيره ومنهم من ينتظر!؟
لماذا نُطلقُ الأحكامَ على عواهِنها ونُقوْلِبُ من شِئنا كما شِئنا، فالأغنياءُ جميعُهُم لصوص،
والفنانون منحرفون، والبُدنُ كسالى، والأجانبُ إما متحضّرون وإما فاسقون، وجميع الفتيات اللاتي ينتمين إلى هذا البلد “شهيّات”،
ونساءُ هذا البلد “منحرفات” وهؤلاء “نِكديّات”، وغيرُهنّ “جميلات” ونساءُ ذلك البلد “ساحرات”،
فهل أنزلَ اللهُ عليكُم دليلُ قلوبِ البشرِ وملّكَكُم مفاتيحَ الجنّة والنار!؟،
فإذًا لماذا يحاسبُنا فرادى؟! أنتم تُحاسِبون الناسَ بالجملةِ رغمَ أنَّ اللهَ سيحاسبُنا جميعًا متّهمين وقضاةً فردًا فردًا.
.
أضِف إلى ذلك هوسَ البعض أن يكونَ مصدرًا للمعلومة ويا حبذا لو بدَت المعلومةُ صحيحةً فيتفنّنُ في تحليلِها ويتسابقُ في تقديمِ قولها،
ثُمَّ يبدو الصيدُ ثمينًا إن تعلّقَت المعلومة بمن اخترتُ أن أفرعنَه أو أؤلهَه أو أبيعَه عقلي وأصدّقَ أنّه مثالٌ حيٌ لمعلوماتٍ ينقُلها إليَّ وليس مجردَ بشر يُخطئُ ويُصيب.
وقد جرَت العادةُ عند حدوثِ تغييرات في المجتمعات عبرَ العصور أن تحدُثَ ببطءٍ فلمْ تقُم حضارةٌ فجأةً ولم تندثرْ فجأة،
غير أنَّه في وقتنا الحالي يعتلي التغييرَ صاروخٌ تكنولوجيٌّ، يُساءُ استخدامُ انطلاقِهِ بسرعةٍ لا متناهيةٍ لنسفِ ما تبقى من إنسانيّتِنا،
صاروخٌ لا يفرّقُ بين ظالمٍ ومظلوم، فاختلطت دماءُ ضحايا الحُكمِ غير المُنصِف مع بائعي وتجَّار الكلام.
وسيستمرُّ الصراعُ بين من ترى أن تمنحَه صوتَك وعقلك، وكأنّك تطالبُه بأن يخوضَ عنك التجرِبةَ فلا تطالُك عواقبُها،
فإن وقعَ افترسْتَه بشماتتِك وإن أنارَ لك طريقًا مظلمًا تجاهلتَه،
وبين صاحبِ الكلام وسامعِه سواءٌ كان متهمًا أو بريئًا أو داعمًا أو معارضًا،
وما بين رفضِك أو قبولِك وتحليلِك أو استنكارِكَ لحقِّ أحدِهِم في الحفاظِ على ميثاقِه الغليظِ أو فضِّهِ بأبغض الحلال،
يظلُّ الجدلُ دائرًا عن قطعةِ الشيكولاتة أو الحلوى المغطاة وغيرِها المكشوفة للذباب، ولن ينتهيَ الأخذُ فيه والرّدمرونةً
بُد أن نخرجَ من كلّ هذه الصراعاتِ والصدماتِ المجتمعيّة بدرسٍ لنا جميعًا وهو ألا نُؤلّهَ هذا أو نُشيْطن ذاك،
وإنما نتعاملُ معهم من منطلق أنهم بشرٌ مثلُنا، وليسوا إلا ناقلي معلومةٍ أو فكرةٍ ولا يشترطُ أن يكونوا مثالًا حيًّا لها،
وإلا لأعطوا الحق للناس أن تجلدَهم بذنوبِهم.
إن الحضارةَ الإنسانيةَ اليوم أحوجُ ما تكونُ إلى نبذِ الصراع والبحثِ عن كل ما هو مشتركٌ بين بني البشر
حتى تكونَ الحياةُ على الاختلافِ والتنوّعِ أكثر يُسرًا ووعيًا وقبولًا لدى الجميع،
ومن هُنا يأتي السؤال، هل تتحقَّقُ نبوءةُ وقراءاتُ بعضِ علماءِ العلوم الإنسانيّة بأنّ زمننا هذا هو زمنِ سقوط التعريفات الثابتة للأخلاق
والثوابت بتطور المجتمع إلى أفكار أكثر مرونةً في محاولةٍ تهدُف إلى البعد عن التقاليد الزائفة والقضاء على القداسة المصطنعة،
وأنه مع إعمال العقل في كل المتغيرات تسقطُ جميع الأقنعة والأصنام!؟