الإعلامي أحمد رجب يكتب: قبل أن نهلك في ” لمح البصر”
معظم أبناء جيلي أعتقد أنهم يتذكرون” إيد الهون ” .. كان إيد الهون صديقي وحبيبي ومنبه القديم الذي يوقظني من قيلولة العصرية !! .. بمجرد سماعه أعلم علي الفور أن بطلة الغداء هذا اليوم ستكون الملوخية !! .. إنه إيد الهون الذي كانت أمي وخالاتي يدغدغون به فصوص الثوم البلدي .
كنت أستيقظ دومٱ على صوت دقاته المتوالية التي هي أشبه بـ دقات طبول الحرب في العصور الوسطى !! .. وبمجرد أن أستيقظ أتعمد أن أسرع إلى بلكونة شقتنا الكائنة في منطقتنا الشعبية العريقة فأجد عيدان الملوخية الخضراء تحتضن بعضها البعض علي منضدة دائرية وضعتها خالتي الكبرى الغالية علي قلبي في منتصف البلكونة تحت أشعة الشمس الملتهبة فيتأكد ظني من أن الملوخية هي التي سوف تلعب دور البطولة في غداء اليوم ولم تك تخلو نفس المنضدة من عيدان النعناع البلدي ذو الرائحة الذكية الجميلة وهي رائحة كانت تقذف بداخلي طاقة إيجابية تجعلني أشعر بنشوة الحياة !!وكانت عيدان النعناع تستعد لكي تقفز قفزة الثقة في كوب الشاي الذي كان بتناوله جدي بعد الغداء !!
ولنعد إلي إيد الهون !!
تلك الألة النحاسية الفتاكة التي كانت تدغدغ الحبوب والقلوب معٱ !! ….
أعلم أنها مازالت موجودة حتى الآن في بعض المنازل خاصة الكائنة في الأرياف وفي الأماكن والمناطق الشعبية ولكن سلالة هذه الآلة قد أوشكت على الإنقراض !!
الفكرة يا أعزائي من تركيزي علي إيد الهون ليست تتبلور في إيد الهون نفسه بقدر ما كانت تتجسد في حلاوة عادات وتقاليد وأعراف وطبائع بدأت تنسحب منا رويدٱ رويدٱ لتحل محلها الأجهزة المنزلية الأخري المستوردة التي تهرس الثوم في لحظة وتفتك بالبصل في ثواني معدودة وتحطم كافة الحبوب تحت مقصلة التطور التكنولوجي .
نحن لا ننكر أهمية التقدم والرقي والتطور ولكن دون أن يؤثر ذلك على ما كان محفورٱ في القلب والعقل والوجدان من تراث مجتمعي وموروث ثقافي كنا نتميز به عن سائر شعوب الأرض .. أنني فقط أضرب مثلٱ بإيد الهون كي نقيس علي ذلك أيادي أخري عديدة رحلت عنا مع إيد الهون !!
أيادي الرحمة لدى الشباب !! .. أيدي الرجولة لدى الرجال !! .. الأيدي الناعمة لدى نساء مصر العظيمات .. أَيدي العطف دون رياء .. أيّدي المساعدة وفعل الخيرات دون شو ودون تحدي ودون بث إعلانات ممولة لصالح مؤسسات وجمعيات غير واضحة المعالم ولا معروف لها هوية ولا أساس !! .. أيْدي الطهارة بالوضوء والاغتسال !! .. أيدى التكبير والتهليل بالله أكبر الله أكبر الله أكبر دون مزايدة ولا نفاق !! .. أيدي الصداقة والزمالة الحقيقية المجردة عن المصالح والصفقات !!
لكل هذا هان كل شئ بداخلنا حتي علاقتنا مع الله !!
تخلينا عن كل ماهو جميل وتمسكنا بقبح الغرب الذي هو الآن يبحث ويفتش وينقب عن عاداتنا وتقاليدنا واعرافنا وجدول أعمال يومنا القديم كي يضاهي تراثنا حتى ولو كان ذلك في بعض نواحيها الطهارة والنظافة !!
صدقوني هم يركزون و يدققون بعد إنتهاء أزمة كورونا إلي كل ما هجرناه نحن من تراث !!
استعيدوا كلاسيكية زمن مصر القديم وعلى رأس هذه الكلاسيكية هي كلاسيكية علاقتنا بالله إن جاز هذا التعبير !!
الكلاسيكية بما تحوي من عشق و حب وتناغم ونغم وجمال ورقي وعظمة وسمو وترفع ورفعة وذوبان وإنسياب تستحق أن تكون مع الله أولا ثم مع أي شئ آخر .. هكذا كان نبي الله داود ونجله سليمان وهكذا كان نبي الله أيوب وهكذا كان نبي الله إلياس وغيرهم من أنبياء الله حتى أنبياء الله أولو العزم كانوا قمة الكلاسيكية في حياتهم بشكل عام وفي علاقتهم بالله بشكل خاص .
نتقدم ونتطور بلا أن نتخلى عن ركائز هذا التطور !!
نحاكي في الخير ولا نضاهي في الشر !!
نصافح الصواب ونمتنع عن مصافحة الخطأ !!
نتجمل تجملٱ محمودٱ دون كذب !!
نغض البصر قبل أن نهلك في لمح البصر !!!!