مقالات

سرطان الطلاق 

سرطان الطلاق 

سرطان الطلاق 
ارشيفية

كتب / د. محمد كامل الباز

تحيرت كثيراً قبل أن أضع عنواناً مناسباً لهذا المقال.. في أول وهلة كنت أفضل أن أُسَمِّي الطلاق بالوباء لسرعة انتشاره وكثرته، ولكن طبيًا عرفت من علماء الأوبئة أن أي وباء لا يستغرق أكثر من ثلاث سنوات على الأكثر ثم يزول وحده أو باستخدام فاكسين أو عقار ويصبح ذكرى، وهذا الوضع لا ينطبق على هذه الحالة المزمنة الموجودة في مجتمعنا.. حيث إننا ما زلنا في مرحلة البحث عن كافة العقاقير والأدوية، ولكن الأعداد تتضاعف، والموجود منها لا يستجيب للعلاج… هل من حل لهذا الشرخ المجتمعي الذي أصاب كثيراً من بيوتنا بالتصدع؟

روى الإمام أحمد أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: “إبليس يجتمع بجنوده كل يوم في المساء ليرى ماذا فعل كل منهم طول اليوم، هذا يقول: جعلته يزني، وذاك يقول: جعلته يقتل، وآخر يقول: جعلته يسرق، فلا ينتبه لهم إبليس القائد حتى يخرج أحدهم ويقول: ظللت خلفه حتى فرّقت بينه وبين زوجته، هنا يبتسم إبليس ويقول له: أنت، أنت هو أنت…” لم يُثنِ على من تسبب في الزنا، أو القتل، أو السرقة، مع أن كل هذه من الكبائر، ولكنه أثنى وفرح من الطلاق، مع أن الطلاق في حد ذاته ليس حرامًا، وهو مباح… وهنا بيت القصيد…

أجمع كل العلماء على أن هذا المباح أو الحلال سيترتب عليه موبقات سواء للفرد أو المجتمع أضعاف ما يمكن أن تنتج من الكبائر مثل الزنا أو القتل أو السرقة… الطلاق مفسدة اجتماعية رهيبة، يتم من خلالها هدم بيت قد شُيّد من أجل إعمار المجتمع… تفريق شمل أسرة كانت كلها على قلب رجل واحد، خلق المزيد من المشاكل النفسية لدى جيل صاعد، فهذا ولد قد فقد النصح والإرشاد من والده… فقد صداقته وقربه، ناهيك عن رؤيته كل أصدقائه يتكلمون عن علاقتهم بوالدهم وهو ليس عنده ما يقصه لهم… وهذه بنت فقدت الاحتضان الأسري والمناخ الطبيعي، وهو أن تنشأ في كنف أب وأم… أب يشد الحبل وأم ترخيه، أب يعامل بحزم وشدة وأم توازن بلين وحكمة، لمن تحكي أسرارها؟ وفيمن تثق؟…

معذرة أيها الولد وأيتها البنت، فقد قرر الأبوان حرمانكم من هذا التواجد، حيث عليكم أن تختاروا واحدًا منهما فقط ليكمل دور الآخر… وإذا حاولنا التدخل لحل تلك المشاكل، تسمع غالبًا شكاوى متشابهة، إذا فهم الزوجان أبعاد خطر الطلاق سيضغط كل منهما على نفسه لتجاوزها… فتلك زوجة كل مشكلتها أن زوجها تغير بعد أيام الخطوبة، وهي لا تدرك أن إيقاع الحياة كفيل بتغيير لون مياه الشرب، وأخرى تشكو من عدم التفاهم، وثالثة تؤكد استحالة الحياة، هي تقول إنه لم يعد هناك تفاهم، بعد عقود اكتشفت ذلك!!

وفي الجانب الآخر تسمع شكاوى مشابهة من الرجال، زهق من البيت، الزوجة بقت نكدية، وهو عنده أولاد “ينكدوا على بلد”!!

لتكون الحصيلة واحدة، وهي رقم مرعب لأعداد ونِسَب الطلاق في مجتمعنا… رقم يهدد الأخضر واليابس… إذا دخلت جروبات التواصل الاجتماعي، يشيب شعرك من أعداد المطلقات، لدرجة أني ظننت أن الاستثناء هو بقاء الزوجين!

كنت قديمًا أغضب من أي رجل أو امرأة أجده عازفًا عن الزواج، ولكن بعد أن بدأت أسمع منهم التمست لهم الأعذار، فهي لا تريد أن تكرر تجربة والدتها الصعبة وتأخذ لقب مطلقة، وهو وجد أمامه أمثلة من الزيجات التي لم تستمر أكثر من عام، كفيلة أصلاً باعتبار الزواج دربًا من دروب الجنون…

الطلاق لم يصبح مشكلة حاضرة تؤثر على حياة الأزواج الذين انفصلوا، بل أصبحت مشكلة مستقبلية تعطي جانبًا سلبيًا للذين لم يتزوجوا أصلًا…

ما العمل؟ نريد حلًّا علميًا لهذه الكارثة المجتمعية… نريد مسحًا ذريًا وجلسات علاج كيميائي للتعامل مع ذلك الورم الخبيث!!

الكارثة تتمثل في خرق للفطرة الطبيعية التي أنشأنا الله عليها وفيها، ينشأ الولد أو البنت بين زوج وزوجة… أب وأم… أشياء كثيرة يعجز عن القيام بها الرجل، لن تجدها إلا في الزوجة، والعكس صحيح… محاولة اختزال دور أحدهما والقيام به أمر ليس هينًا…

كان ظاهر المشكلة أن نسب الطلاق موجودة فقط في أول سنين الزواج لعدم التفاهم، لكننا وجدنا عددًا ليس بالقليل ينفصل في العقد الثاني… هل هي مشكلة بدون حل؟ أم عقدة بلا حلال؟ بالطبع لا… ولكن الحل ليس فرديًا، إنما هو مشترك وموزع على جهات عديدة، يبدأ أولًا من البيت، الذي يشرح للولد أو البنت ما معنى الزواج، ما قيمة هذا الارتباط…

الزواج ليس شهر عسل أو سفرًا للخارج لقضاء إجازات… ليس عرض صور على الفيس بوك للتباهي أمام الأهل والأصدقاء… الزواج هو ميثاق غليظ… عقد متين شرعه الله، أوجب حقوقًا وواجبات بمجرد كتابة بنود ذلك العقد…

على البنت معرفة واجباتها قبل حقوقها، وعلى الزوج كذلك…

ولكن كيف نعرف تلك الواجبات؟ بالطبع من شرعنا الحنيف…

إن الله جعل بين الناس مساحات ومسافات، وبنى على تلك المسافات أحكامًا وواجبات شرعية، فمثلًا الوالد مع ولده بينهما مسافات، لا يصح أن يتعداها الابن أو البنت… وبين الزوج والزوجة مسافات شرعية، ليست تشريفية، إنما تكليفية، فاختصار تلك المسافات والتعدي عليها قد يهدم البيت…

فمثلًا: من أساسيات تنظيم البيت هو الإنفاق للرجل… تجد كثيرًا من مشاكل الطلاق تشتكي المرأة أنها هي التي تنفق، وزوجها ليس له فائدة… وهذا نوع من أنواع التعدي على تلك المسافات، والتي أعطى الله بسببها قوامة للرجل…

من أمثلة ذلك أيضًا: إفشاء الأسرار أو المشاكل بين الزوجين، والتي بموجبها تتفاقم تلك المشاكل ويستحيل حلها… من حقوق المرأة على الرجل الإخلاص لها، سواء بالحفاظ على أسرار البيت، أو بعدم إطلاق العنان لشهواته أمام أي امرأة أخرى، وللأسف هذا منتشر، مما تسبب في التعدي على مسافة الإخلاص بين الزوجين، والخ… من تلك التعديات التي لو حكمنا ضميرنا لما حدثت…

وهذا الدور طبعًا موجه للآباء أولًا كي ينصحوا أولادهم قبل الزواج… وموجه أيضًا للأزواج أنفسهم، الذين من واجبهم الحفاظ على العلاقة الزوجية من احترام وإخلاص وخصوصية، مما سيثمر عنه التآلف والمودة…

ولكن، هل كل المسؤولية في تلك المشكلة على الآباء والأبناء فقط؟ لا، بل هناك مسؤولية مجتمعية على المجتمع ككل، بداية من الحكومة، التي عليها بدورها نشر كافة البرامج التوعوية والإرشادية للأزواج، للتحذير من عواقب الطلاق، وتسليط الضوء إعلاميًا على تلك الكارثة…

وهناك دورٌ أيضًا لمنظمات المجتمع المدني، وآخر لجمعيات حقوق المرأة، التي أناشدها أن تتقي الله فينا وفي بيوتنا، فهي تقنع المرأة أن حياتها بدون رجل أفضل، وأن تعتمد على نفسها خيرٌ لها من أن تعيش في كنف رجل يتحكم بها، وهي لا تعمل… ونقول لهم: ما المانع أن تنصحوا المرأة بالحفاظ على كيانها وكرامتها مع الحفاظ على بيتها وزوجها…

فصدقوني، إذا تقدم شاب لبنت لن يسأل عن طبيعة ومساهمة والدتها في جمعية النهضة بالمرأة، قدر ما يهتم بطبيعة العلاقة الأسرية التي عاشت من خلالها تلك البنت…

أتمنى أن تنتهي حالات الطلاق، وألا نسمع عن حالة واحدة، وأن يحفظ الله بيوتنا من ذلك الورم الخبيث، حتى ينشأ جيل طبيعي، تربى بين أب وأم متحابين، مما سيساهم في تقدم الأسرة خاصة، والبنية الاجتماعية عامة.

 

نهى مرسي

نائب رئيس تحرير الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى