إنچي الحسيني تكتب … ” السح الدح أمبو”
على إذاعة الأغاني استمتعت للعندليب وهو يغني “فاتت جنبنا” بأحد الحفلات، للأسف لم تكن الأذاعة موفقة في اختيارها لتلك الحفلة، فقد أفسد “الجمهور “متعة الاستماع؛ فقد ظل يصفر ويصرخ “يا عوبد” وغيرها من النداءات المزعجة.
ذهبت لموقع “جوجل” وبحثت عن حفلات ولقاءات عبد الحليم، فوجدت أن للعندليب حفل آخر بنادي الترسانة كان يتسم جمهوره بالهمجية؛ لدرجة أن أحد الحاضرين صعد على المسرح و أهدى له بدلة مرسوم عليه ” فناجين” كناية عن أغنيته قارئة الفنجان، وأثناء غناء “حليم” ظل الجمهور “يصفر” مستخدما صفارات كالتي يستخدمها الجمهور في الملاعب، مما جعل العندليب يتوقف كثيرا وقد نسى الكلمات، ثم خاطب الجمهور عدة مرات “أنا كمان بعرف أصفر” ثم قام مصفرًا، وكثيرا ما توقف ليطلب منهم الهدوء.
هنا توقفت؛ فهل من المعقول أن يكون هذا هو جمهور الزمن الجميل؟!!!! وأمام من ؟ أمام قامة فنية مثل العندليب ؟
هل من المعقول أن نتغنى بهذا الزمن وجمهوره بهذا السلوك المتدني؟!!! فتساءلت ما السبب؟ هل السبب اجتماعي أم اقتصادي أم سياسي؟
فوصلت إلى أن السبب هو سياسي لا محالة، بدأ مع ثورة يوليو ٥٢ .. فهذا الحدث الفاصل في تاريخ مصر، كان سببا أساسيًا في تشويه الذوق العام.
كان ذلك واضحا في التشويه الذي رأيته بالأفلام القديمة؛ حيث تم تسويد صور الملك بتلك الأفلام، تصرف صبياني انتقامي وغبي، وهناك أيضا تلك المباني الملكية التي تحولت الجامعات واستراحات وأملاك خاصة للضباط الأحرار والذين قاموا ببيع ممتلكات الملك من تحف ومقتنيات والاستيلاء على أغلبها بدلا من وضعها في متاحف.
تشويه وراء تشويه صاحبته قرارات شوهت العقلية المصرية عندما تم تفتيت الرقعة الزراعية القرار الغير مدروس المسمى بمجانية التعليم.
ثم جاء عهد السادات فزاد الطين بلة، عندما تعامل مع ملف الجماعات الاسلامية بشكل قضى على المجتمع والذي تشوه بفعل فكر تلك الجماعات، فكان أكبر مؤشر على تشوه المجتمع هو تغير مظهر المرأة، وأصبحت ترتدي كما ترتدي نساء القبيلة، والذي ساهم أكثر وأكثر في زيادة التشويه هو قرار “الانفتاح الاقتصادي” ؛ نعم هو قرار كان مهما لإنعاش السوق المصري، لكن لم يكن هناك ضوابط أو رقابة على هذا الانفتاح، مما سبب تشويه اجتماعي كبير وضحل نعاني منه حتى الآن، والذي تسبب ثانية بعد ثورة ٥٢ في خلخلة الطبقات الاجتماعية، فوجدنا “الزبال” يمتلك عمارات شاهقة وأستاذ الجامعة لا يجد ثمن شقة في عمارة يملكها الزبال.. نفس التشويه الذي ورثه عهد مبارك لينادي أحد الأفاقين “أين ابن الزبال من منصة القضاء؟” وهو نداء يراد به باطل، فالإنسان ابن بيئته..
لم تكن سياسة الانفتاح مشاكلها تتوقف عند خلخلة الطبقات الاجتماعية”فقد أصبح الواطي فوق” والعكس صحيح، ولكن امتد الخلل لاستحداث طبقة “من أين لك هذا ؟” ووجود تجار السلاح والمخدرات، ويذكر أن الأعمال الفنية سجلت ذلك وكانت خير شاهد على ذلك العصر.
وبالطبع ونتيجة لوجود طبقات مستحدثة جاهلة وضعيفة اجتماعيا وأخلاقيًا، كان ولابد للذوق العام أن يتغير هو أيضا في النهاية.. وهنا ظهر “السح الدح أمبو” وما سجله فيلم الكيف عام ١٩٨٥، في هبوط الذوق وقضايا المخدرات خطان متشابكان.
وأعود للعندليب “عبد الحليم حافظ” ففي حوار له مع الإعلامي “طارق حبيب” سأله الأخير عن رأيه في انتشار أغاني عدوية .. رد حليم وقال : ( هي الأغاني دي بتنتشر فين ؟ في شارع الهرم .. ولا بتنتشر على الكاسات اللي بيشتريها ناس عاوزة تسمع أي كلام وفي رتم يرقصوا عليه )
هذا الكلام لم يمنع عبد الحليم أنه يسحب “المايك” من عدوية ويغني له أحد أغانيه .. (الحالة دى يمثلنا كلنا) ..
فجميعنا يرى أن هذه الأغاني لها مكانها وهو شارع الهرم ولها جمهورها الذي يبحث عن “هلس يرقص عليه” لكن هذا أيضا لم يقينا من العدوى بمعنى؛ “ما يمنعش أننا ندندن أغنية لصقت في رأسنا بحكم الانتشار” ولكن تلك الدندنة ليست إقرارًا منا بقبول هذا الذوق الفني ولكنه باختصار تأثير عدوى التدخين السلبي، أو لربما هو تشويه أجيال وراء أجيال توارثناها جيل بعد جيل.
السح الدح أمبو هو أرث تحول لمهرجانات وهذا تطور مجتمعي طبيعي جدا، وعدوية لم يكن مجرد تقليعة، وكذلك شعبان عبد الرحيم، ومن جاء من بعده كحمو وويجز وشاكوش وغيرهم .. بل هم مؤشر على أن المجتمع يعاني الخلل .. خلل لم يعد يمكن إدراكه، فالتشويه أصبح ينال كل شيء من حولنا؛ المباني والشوارع والثقافة، والتعليم، والفن، والإعلام ..
فقد تنكر الحاضر لكل ما هو جميل مثلما تنكرت “الملوخية” لاسمها لتصير “جرين سوب” حتى صار فن محمد رمضان وشركاؤه ” نمر وان” ؟!!!!!