الإنتاج التليفزيوني بين الأمس ..واليوم
كتب: عمرو نوار
ليس بعيدًا عن هذه السطور .. وإذا رجعت عدة صفحات إلى الخلف لتقرأ ( ندوة عالم النجوم) وطرحها لقضية جلوس الفنانيين والفنيين فى منازلهم بلا عمل هؤلاء الذين لا يواكبون مايسمى ب”الحالة الراهنة “و” متطلبات العصر الفني الجديد ” أقول إذا رجعت وتأملت ستجد ان أصابع الاتهام تشير إلى تخلي الدولة ممثلة فى اجهزتها الثقافية والفنية والإنتاجية عن دورها الإنتاجي واسهامها في تلك المنظومة والتي يبدو أنها فقدت أهم عناصرها …
يوما ما… كان يكفيك ان تقرأ فى مقدمة أي عمل فني هذه العبارة ( إنتاج قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون ) لكي تسند ظهرك إلى مقعدك بأمان محاطا بكل أفراد عائلتك متيقنا في قرارة نفسك بإنك ستشاهد عملًا راقيا ذو قيمه فكريه وفنيه عاليه….وبدءا من عام ١٩٨٩ كان يكفي ان تقرأ أسم ( ممدوح الليثي) كختم الجوده على تلك الأعمال… قبل هذا التاريخ وتحديدًا عندما بدأ التليفزيون المصري إرساله في ٢١ يوليو ١٩٦٠…. ليمهد لظهور جيل من عمالقة الدراما المصرية.. والحقيقة انه لايمكن لمن لم يتذوق “طعم ” هذا الإنتاج الراقي ان يدرك حجم المآساة التي تعرض لها هذا القطاع …
بدا وكأنه “صعود إلى الهاوية” ..عقد “معاش مبكر” وقّعهُ مجهولون فى ليلة مظلمة ليطيحوا بهذا الجبل الشامخ… عبر خمسة عشر عاما متتالية إنهار هذا البناء المتكامل بمعول هدم اهمالا أو عمدًا لمصلحة شركات الإنتاج الخاص ..
هذا القطاع الذي أنتج قرابة خمسة عشر الف ساعة درامية وأربعمائة فيلم روائي وستمائة فيلم تسجيلي مع بنية تحتية من استوديوهات داخل مبنى ماسبيرو ومدينة الإنتاج الإعلامي يرافقها جيش منظم من الفنيين بأعلى كفاءات وخبرات ليتوقف كل هذا فجأة مطيحا بتاريخ طويل من العمل الدؤوب والاتقان فى أختيار الأعمال المنتجة.
وبدءا من عام ٢٠١٧ لم يعد لدى هذا القطاع أي ميزانية إنتاجية مما يعني قد تم إطلاق الرصاصة الاخيرة على هذا الجسد الحي والنابض … فى عام ١٩٦٩ أنتج التليفزيون المصري مسلسل ( ابدا لن أموت ) بطولة عزت العلايلي ثم أتبعه ب( الجنة العذراء ) عام ١٩٧٠ بطولة كريمة مختار .. و(الرجل الثالث) بطولة يوسف شعبان حتى وصل إلى أعمال متميزة وعبقرية من نوع ( القاهرة والناس) و ( عادات وتقاليد ) وصولًا إلى ( هارب من الأيام ) و( الدوامة) … فى عام ١٩٦٦ نشر الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس مقالا عنوانه ( افصلوا الظابط ممدوح الليثي وعينوه بالتليفزيون )
وكان ذلك عقب مشاهدة الكاتب الكبير لأول فيلم قصة وسيناريو وحوار ممدوح الليثي ( تاكسي) والذي فاز عنه بجائزة أفضل كاتب فى مهرجان التليفزيون لعام ١٩٦٦ … وفى عام ١٩٨٢ تم تعيين “الليثي ” مديرًا لأفلام التليفزيون لنشاهد بعدها أعمالًا درامية و”سيميتلفزيونية” من نوع ( أنا لا أكذب ولكني أتجمل) و( طقم مدهب )
ثم تلك اللالئ المضيئة في تاريخنا الفني ( رأفت الهجان ) و( دموع فى عيون وقحة) و( الحّفار) و( السقوط فى بئر سبع) ثم يبهرنا بالتعاون المثمر مع القوات المسلحة المصرية لنرى ( الطريق إلى إيلات ) و ( حائط البطولات) ولن يسقط من ذاكرة التاريخ المصري الدرامي ابدا تلك الأعمال التي مازلنا ومازال القارئ العزيز يتابعها بنفس شغف عرضها الأول( الشهد والدموع) و( ليالي الحلمية) و( أرابيسك) …ويعتبر مسلسل ( عائلة الحاج متولي) هو آخر أعمال هذا القطاع العظيم … لتُترك الساحة بعدها خالية تمامًا أمام القطاع الخاص والذي لم ولن يغامر أبدا بإنتاج الأعمال التاريخية والدينية حيث انها لا تلبى طموحاته المادية والربحية …. تبدأ المنظومة بمفهوم ( المسلسل النجم) وليس ( المسلسل الموضوع) فاذا كانت تكلفة العمل هى مائة مليون جنيه فان نصيب هذا النجم هو خمس وسبعين مليون جنيه وهذه التكلفة العالية ستلقى بشركة الإنتاج فى أحضان المعلنين الذين يعتقدون ان ” الاثارة” و” أعمال العنف ” و”البطلجة” هي عوامل جذب فعالة وهكذا يدور العمل بين ثلاثي ” النجم” وشركة الإنتاج ” والمعلن” مخاطبًا جمهور غامض يشبه هؤلاء الثلاثة فى انعدام الذائقة الفنية و” استحسان الرداءه ” ليصبح المشاهد الذي هو أنا وأنت ضحية تلك المنظومة المشوهة والمشوِهة لكل قيمة أنسانية …
مئات المقالات كُتِبَت والاف النداءات اُرسِلَت إلى المعنيين لدرء هذا الخطر الداهم والعودة إلى إنتاج التليفزيون الذي يصرح المسئولين عنه ان ميزانيته التي تبلغ أربع وعشرون مليون جنيه مصري لا تكفى لإنتاج مسلسل واحد …فهل سيبقى الشعب كله أسيرًا لهؤلاء من منتجي دراما العنف والبلطجة والمخدرات.. تلك الأعمال المنحطة لفظًا و أداءا ام ينبغي على الشعب ان يجد محاميًا ذو ضمير ليرفع قضية على الطرفين هؤلاء بأعمالهم وهؤلاء بصمتهم بتهمة ( إفساد الذوق العام ) ..