الدوحة الخامسة والعشرون “رمضان والتوبة ” بقلم : د. ياسر أحمد العز
شهر رمضان يلهم الله فيه النفوس الآثمة والقلوب الهائمة، لترجع إليه، لتصحح المسار، وتصحب الأخيار، وتترك طرق الغاوين الفجّار، وتتخفف من الذنوب والأوزار.. رمضان شهر الغفران. فمن لم يغفر الله له في رمضان فمتى سيغفر الله له؟ ومن لم يحقق الأسباب الجالبة للمغفرة فماذا يرجو من ربه بعد ذلك؟ قال -صلى الله عليه وسلم .رغم أنف رجل دخل عليه رمضان فانسلخ قبل أن يغفر له) . إن الصيام أهم شعيرة سنوية تحل بالمسلمين كمحطة للمراجعةوالتوبة والإنابة وطلب الغفران، أراده الله ليكون مناسبة لمراجعة النفس ومواجهتها. وردها إلى فطرتها وأصل خِلقتها، والعودة بها إلى رحاب الله، وإلى كنفه وهداه مع أهل الله، ولتتذوق حلاوة الإيمان، ولترقى في مدارج الإحسان. ولتُحِس بعزة العبادة ولذتها، بعد مرارة المعصية وذلة الخضوع للهوى وللشيطان.
فضل شهر رمضان المبارك :
ويكفي من شرف هذا الشهر المبارك وفضله. أن من صامه وقامه بإيمان وإحسان وإتقان مُحِيت صفحاته السوداء. وفتحت له صحيفة نقية بيضاء. وسَطَع له في الملأ الأعلى نور وأضاء، إن رمضان فيه تتدفّق أمواج التائبين على الله ويكثر فيه سواد المتدينين. وتتطهر أرواح المذنبين، وتتعطر بأريج التوبة. وتعلو البسمة والبشر وجوههم. وتغمرهم نسائم الإيمان، وتهزهم أشواق الإحسان في شهر القرآن، وكم تبكي عيون المذنبين. وتقشعر جلودهم. وتلين قلوبهم. وتطمئن لذكر الله. ويزول عنها الران الذي علاها. وتصفو وتزكو. وتفتح أبواب الأمل في وجوه المذنبين الذين أطاحت بهم الشياطين في فخاخها. وأوقعتهم في شباكها.
و كما أحاطت بهم خطاياهم من كل جانب حتى اشتد قلقهم وتوجسهم منها. لأن الله الكريم الحليم هيّأ لهم الأجواء. وقلل عنهم سبل الإغواء. وأخرس ألسنة الشياطين الأعداء، وشل حركاتهم. وأزال وساوسهم. وجعل أرواح المؤمنين تستجيب لأوامره سبحانه، وأخمد نيران الشهوات، وأضعف حدة الهوى في نفوسهم. وما ذلك إلا ليتوبوا ويسلكوا سبيل التائبين النادمين المقبلين على الله، قال تعالى(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا ).
و رمضان مناسبة يمنحها الكريم لعباده كي يغتنموها لإصلاح ما فسد من تدينهم،وتجديد ما بَلِي من إيمانهم، وتقويم ما اعوَجَّ من سلوكهم، وتطهير ما ران على قلوبهم، وللإكثار من الصالحات؛ ليكون ذلك رصيدا يكمّل لهم ما يعتري أعمالهم خلال السنة من نقص أو تقصير. فإذا أضاع المسلم هذه الفرص وحرم مما يتاح فيها من الخيرات والبركات وأضاع ما يمكن أن يربح فيها من الصفقات فهو محروم مهموم مَغْبون. وأي حرمان بعد هذا؟! وبئس المحروم مَن حُرِم مِن فضل الله الدافق الرائق.إن التوبة المطلوبة هي التي لا تستقيم الحياة إلا بها.
ولا يصح السلوك إلى الله إلا بشروطها، ولا تصلح الأحوال ولا تكتمل سعادة المؤمن إلا معها، ولا تحصل فرحة الأمة وترفع عنها الغُمّة إلا بها، هي التوبة الشاملة الكاملة الفاعلة العميقة المتجدّدة المقبولة بإذن الله.