اللص والكلاب وخيانة الطبقة الفقيرة
بقلم: أشرف الريس
كى نكون مُنصفين يا عزيزي القارئ فى نقد هذا الفيلم الرائع علينا بالتعرُض أولاً لروايته التي كتب سُطورها أديبنا الراحل الكبير نجيب محفوظ حيثُ لا يُذكر الفيلم مُطلقاً إلا و يُذكر معه أسم بطل الرواية الحقيقى “اللص السفاح محمود أمين سليمان” كما أطلقت عليه الصُحف المصرية و الذي أفزع البلاد و العِباد حتى قتله البوليس المصري فى إحدى مغارات منطقة حُلوان فى مطلع الستينيات من القرن الماضي …
و بلا شك فلا تخلو أي دراسة نقدية من هذه الإشارة المُقتضبة عن أصل الحكاية و عن مصدر شخصية سعيد مهران الروائية التي لعبها فى السينما الجان “شكرى سرحان” فى فيلم «اللص و الكلاب» و لعبها أيضاً على المسرح الراحل “صلاح قابيل” حيثُ “محمود سليمان” الذي هو أصل “سعيد مهران” الواقعي الذي أنتقل من خلال رواية محفوظ من صفحة الحوادث والقضايا إلى صفحة الأدب والفن وصار نموذجاً أدبياً مُستقلاً بل إن سعيد مهران أصبح أكثر خلوداً وبقاءاً من البذرة التي صنعته حتى إننا نستطيع أن نُقارنه بشخصية “راسكولينوكوف” فى « الجَريمة و العِقاب » للأديب ديستوفسكى و مُسْتلهَماً مِن شخصية واقعية أرتكبت جريمتها بالفعل ثم اندثرت و تلاشت مع مُرور الزمن …
و إذا كانت أسطورة السفاح محمود سليمان بدأت عَقِبَ هُروبه من السجن فإن أسطورة سعيد مهران قد بدأت عقب خُروجه منه بعدما قَدَمَ المُخرج المُبدع ” كمال الشيخ ” فيلمه اللص والكلاب بعد عامٍ كامل من نشر الرواية و تضمن أكثر من مئة مشهد و ألتزم بمُعظم شخصيات الرواية لكنه قلص حُضور الشيخ “الجنيدى” فى مشهدين فقط وجعل ” بياظة ” صاحب مقهى و ليس أحد أتباع عليش و أختلق بعض الشخصيات مثل ” السَجين مَهدي ” …
و الحقُ يُقال أن كمال الشيخ قد تعامل مع الرواية بتقدير فنان صادق وقف على جَمالِ النص و إبداعه وعُمقه فكشف بلغة الفن عن خيانة تجاه الطبقات الفقيرة التي يتم نهبها ولا تجد القوت أو العلاج و تتجه للسَرقة و الدِعارة بسب هذا الخلل الفظيع فقد شيد كمال الشيخ المعمار السينمائى على أرضية الرواية و لم يَعَبَثَ بها و أنما حافظ على أستقرارها و على محاورها التي تتناول الخيانة المُتمِثلة فى الزوجة ” سلوى محمود ” ( نبوية) و ” زين العشماوي ” ( عليش ) و معهُما ” كمال الشناوي ” (رؤوف علوان) و الأخير هو الثوري السابق الذي عَلَمَ سعيد التمرد و بأن سرقة الأغنياء حلالاً اذ ما أخُذ بالسرقة لا يُسترد الا بغيرها ! …
فى هذا الفيلم أستطاع كمال الشيخ أن يرسم لحظة لقاء سعيد بعليش فى حُضور المُخبر ( حسب الله ) فى منظرٍ يُعبِر عن حِماية الشرطة و الحُكومة للصوص ! و قد أختار كمال الشيخ الممثل العملاق ” عدلي كاسب ” ليُقدم شخصية المُخبر فى هيئة قُطاع الطرق المُجرمين والباطشين بالضعفاء بعد أن تَصَرَفَ ( حسب الله ) بجفاءٍ و قسوة مع سعيد حينما طلب رؤية ابنته سناء و جاءت الطفلة باكية ناكرة لأبيها و كان المشهد كله يرسم ملامح مأسأة سعيد مهران الذي فقد كُل شئ و لم يتبق أمامه سوى رؤوف علوان أستاذه و مُعلمه …
و لكن عندما يذهب سعيد لرؤوف علوان لا يجد الثوري القديم و أنما صحفي يعمل فى صحيفة ( النجمة ) و يكتب عن الموضة و الفن ! و قد تغير علوان و أنقلب على سعيد و هدده لينضم رؤوف علوان إلى أعداء الأمس و بعدما أصبح منهم و أستغل ثقافته لفتح النار على سعيد و أمثاله الذى لم يجد الأخير أمامه سوى ” شادية ” ( نور) و التى قامت بأداء مُبهر للفتاة الفقيرة التي لا تجد أمامها سوى أحتراف الدعارة لتعيش حيثُ يربط المؤلف بين سعيد و نور بعد أن جمعهُما الفقر و البؤس و غياب العدل لكن نور مُستسلمة بهذا القدر الإجتماعى إما سعيد فيقرر الإنتقام من الكلاب و على رأسهم رؤوف عِلوان الخائن الذى طعن الفقراء بقلمه و سكن القصر الفاخر على ضفاف النيل ! …
و فى نهاية الفيلم يظهر سعيد مهران مع رؤوف علوان بجانب سيارته الفارهة و هناك أبتسامة نصر اذ تم قتل التمرُد الغبي الذى أعتقد أنه يُمكنه بمُفرده الفوز لانه صاحب قضية عادلة و البُسطاء يقفون خلفه و لم تبكي على سعيد مهران سوى نور التي نظنُ أنها غير شريفة لكنها الوحيدة التي شعرت به و حاولت جذبه بعيداً عن شهوة الأنتقام …
من أروع المشاهد من وجهة نظر كاتب هذه السُطور هو المُشهد الذى أحتمى فيه سعيد بالشيخ الجنيدي لعله يجد فى عالمِه الخلاص من مُطاردة الكلاب و نُكران ابنته له و لكن الشيخ رد عليه بمفهومه الذي لا يعرف سواه حيثُ قال له ” خُش يابنى أتوضى و صلي ركعتين و ربنا حايفرجها ” ! و هو ما ذُكر فى الرواية بالحرف الواحد فى دلالة واضحة من نجيب محفوظ عن رجال الدين الذين لايملكون مُطلقاً سوى لُغة النُصح و الإرشاد مع افتقادهم لحل أو حتى المُساهمة فى حلٍ جُزئىٍ ! لا كُلىٍ ! لأىٍ من المُشكلات الحَياتية …
و ينتهي الفيلم من وجهة نظري بعودة الجميع إلى أماكنهم فى المُجتمع فسعيد لص يُطارد الكلاب فتقتله و نور مومس بنت ليل يسُبها مُجتمع الذكور نهارا ليَنْسَلَّ إلى أحُضانها فى فراشها ليلاً و هكذا يسقُط سعيد مهران اللص المحبوب من الجميع بطلاً ثورياً مهزوماً يؤوساً بين أملٍ عاشه آخر أيامه ” نور” و بين خيبة أمل تَجَلَتْ فى نُكران إبنته له و يموت و هى ماثلة أمامه و لكن لحُسن حظنا أن سُقوطه لا ينهي الأسئلة مُطلقاً بل يُعمقها أكثر حيثُ ستظل دماء سعيد مهران تُحرضنا دوماً على السؤال الكبير ألا و هو لم لا تُطبق المَحكمة العدل و تكتفي فقط بتطبيق القانون ؟! .