عاجلمقالات

المرأة في حياة سعد زغلول.. بقلم: دكتور ماهر جبر

المرأة في حياة سعد زغلول.. بقلم: دكتور ماهر جبر

المرأة في حياة سعد زغلول.. بقلم: دكتور ماهر جبر
دكتور ماهر جبر

يتبادر إلى ذهن القارئ على الفور عند قراءته لعنوان المقال أن الحديث سيكون عن زوجته أم المصريين صفية زغلول، أو عن إحدى شهيدات ثورة 1919، لكني سأفرد لذلك مقالات أخرى، إنما قصدت بالمرأة هنا ذلك الجانب الخفي من حياة الزعيم خالد الذكر، والذي كان له عظيم الأثر في نشأته، بل ورافقه طيلة مشواره المليء بالخلافات السياسية والمؤامرات التي حاكها خصومه السياسيين لإطفاء بريق زعامته، أوتقليص التأييد الشعبي الجارف له، فما من مرة وقع في شدة، إلا ولاحت أمامه تشد على يده، وتهون عليه كل صعب، إنها ملهمته، وسر بناء شخصيته وتكوينها. وإن لم يذكرها أحد من قريب أو بعيد، إنها سبب وجوده ومن أتت به إلى الدنيا، إنها والدته.

في ذلك الطرف الشمالي من دلتا مصر، تقبع قرية صغيرة على شاطئ النيل هي منية المرشد. حيث قدم إليها من مئات السنين عائلة بركات وكان نزوحها من ملوي في صعيد مصر، إستقرت العائلة وعملت كغيرها من سكان القرية بالزراعة حتى وصلنا إلى نهايات القرن الثامن عشر حيث أصبح عمدة القرية وكبيرها. وصاحب الحل والعقد، ومرجع قاطنيها لحل مشاكلهم جميعاً، الشيخ عبده بركات، الذي أنجب عبدالله بركات والد فتح الله بركات باشا، عاطف بركات باشا. والأول هو والد بهي الدين بركات باشا الوصي على الأمير أحمد فؤاد ولي عرش مصر، ثم أنجب الشيخ عبده بركات أيضاً بنتاً رائعة الجمال أسماها مريم، زوجها بعد ذلك من الشيخ إبراهيم زغلول، فولدت له زعيمنا خالد الذكر سعد زغلول. وفتحي زغلول. وبنتاً أسموها ستهم وهي أم رتيبة والدة التوأم مصطفى، علي أمين، فمن تكون والدة الزعيم سعد زغلول؟؟؟؟؟؟؟؟؟.

مريم بنت الشيخ عبده بركات

والدته إذاً هي مريم بنت الشيخ عبده بركات. ومريم هذه هي محور حديثنا، بل هي محور زعامة سعد زغلول والمؤثر الأول والأخير في حياته. خاصة لو علمنا أن وفاة والده كانت وسنه خمس سنوات، فكان لزاماً عليها تأدية دور الأب والأم كليهما.

كان سعد وليدها الأول. وأول عهدها بالأبناء، تجمعن نساء العائلة حول القابلة لحظة مولده. وتعالت صيحاتهم بالزغاريد. وتنبأت كلاً منهن بمستقبله بين قائلة أنه سيكون وزيراً. وأخرى تراه حاكماً. وثالثة تراه زعيماً، غير أن أمه رأته كل ذلك في وقت واحد، فقالت بل سيكون هؤلاء جميعاً، وضحكت النساء ولم يضحك القدر، كما يقول كاتبنا الكبير مصطفى أمين الذي تربى في بيت الأمة، فسعد زغلول بمثابة جده، فهو خال والدته ومتبنيها كما ذكرنا. وبالفعل فقد أصبح سعد زغلول كل هؤلاء، فهو الزعيم والقائد والوزير والحاكم.

تأثير مريم في حياته

و كان تأثيرها في حياته كبيراً، فهي تمثل الحق والخير والجمال المحفور في داخله. وهي من جعلته ينتصر ويناصر النساء كافة، من أجلها ساند قاسم أمين ووقف بجانبه يوم تخلى عنه الناس جميعاً، عند تأليفه كتابي، تحرير المرأة. والمرأة الجديدة، رغم ما تعرض له من انتقادات واتهام بالذندقة، بل أكثر من ذلك تجمع العامة عند بيته يهتفون ضده.

ويرمون بيته بالحجارة. ويتعرضون له ولزوجته بأشنع التهم الكاذبة والتي تطال شرفهم، لم يكن موقفه هذا من أجل قاسم أمين فقط. و إنما قبل ذلك من أجل أمه التي جعلته يؤمن بذلك، عاتبه الخديوي عباس على ذلك قائلاً، أتطالب بتحرير المرأة وهي ناقصة عقل ودين، فرد عليه أمي هي من جعلتني أؤمن بتحرير المرأة فهي ليست ناقصة عقل ولا دين، بل هي أعقل وأرجح من كل الرجال في بلدنا، يعود إليها الصغير والكبير لإستشارتها.
ومن أجلها رفع الحجاب كاشفاً وجه زوجته صفية عند عودته من المنفى وجموع المصريين في إنتظاره، قائلاً لها عندما سألته ذلك، إرفعي نحن في ثورة. وجعلها تتزعم ثورة تشارك فيها النساء، فكانت أول ثورة في التاريخ تشهد هذا التطور الاجتماعي. وتسقط نساء شهيدات يكتبن بدمائهن سطوراً مضيئة في سجل البطولة الخالد. ويحفظهم التاريخ في أنصع صفحاته، كنساء شاركن في صنع مجد وتاريخ الوطن.

مدي تأثيرها في شخصه

بلغ اليقين بذلك أن تأثيرها في شخصه ومسيرته كان كبيراً، فكانت قابعة في عقله الباطن رقيبة على كل مايصدر عنه من تصرف، رقابة جعلته على الدوام مرفوع الرأس، يرى كما قال أن الحق فوق القوة. والأمة فوق الحكومة، نعم رقابة جعلته يعلى العزة والكرامة فوق الجاه والسلطان، مما جعله يفتخر دائماً بأصوله الريفي. وكونه فلاحاً. وأن أهله يرتدون الجلاليب الزرقاء. والتي فضلها على ملابس التشريفة الخاصة بالأعيان والحكام، كل ذلك رغم مصاهرته لرئيس الوزراء والد زوجته صفية ذو الأصول التركية، بل جعلته كذلك يقف مرات عديدة في وجه الملك فؤاد. ويخضعه لما يريد. وإنما كان ذلك لتمسكه بالعدل والحق في كل قضاياه.

و كما جعلته تلك الرقابة أيضاً يرفض أن يكون ملكاً على مصر. وهو من حلم بالوزارة وبات ليله مسهداً من أجلها. وما كان رفضه إلا لأن المحتل أراد أن يستميله ليمشي في ركابهم متخلياً عن قضية بلاه، فقال قولته الشهيرة إذاً فجورج الخامس يفاوض جورج الخامس، نعم كان يراها في صحوه ومنامه، كلما أعيته الحيلة في أمر من الأمور، باسمة ضاحكة فيعلم أنه خير فيتمه. أو واجمة ومحذرة، فيراجع نفسه.

و لكن هل كانت المرأة لها صوت مسموع في ذلك الزمان. وفي ذلك المكان الضارب بجذوره في الريف المصري، حيث التقاليد الراسخة. وحيث تأصيل سطوة الرجل. وكون المرأة منظور لها فقط كوعاء للإنجاب؟، كلا لم تكن المرأة في ذلك الوقت يؤخذ برأيها في شيئ، فأن تكون هناك إمرأة لها كل هذا الحضور. وكل هذه السمات، فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على قوة شخصيتها. وعظيم قدرها، وكون المرأة المصرية رائدة على الدوام أينما كانت.

رحم الله زعيمنا خالد الذكر سعد باشا زغلول، ورحم من أنجبته في تلك القرية الصغيرة، ثم قدمته لذلك العالم الكبير ليذيع صيته وتعلو شهرته في الآفاق. وليحقق نبوءتها فيصبح وبحق، القائد، والحاكم، والوزير.

زر الذهاب إلى الأعلى