المعارضة الحقة سر بقاء النظام .. بقلم: د. ماهر جبر
آفة الرأي الهوى، فسر الخلاف دائماً بين المعارضة والنظام هو التمسك بمبدأ عدم قبول الآخر، وهو مبدأ يسود بين العامة من الناس، فمن تختلف معه في الرأي تصبح على الفور عدواً لدوداً له لا يطيق محادثتك، بل لا يتصور رؤيتك من قريب أو بعيد، ذلك على خلاف مايجب أن يكون، فهذا إنما هو معتقد خاطيء يذهب بنا إلى غياهب الجب، ويعود بنا كافة إلى عصور الجهل والظلمات، والصحيح أن خلاف الرؤى بين الأشخاص يجب أن يكون مثاراً لنقاش منتج ومثمر، ويجب أن ينطلق هذا النقاش وكلاً منهم يرتكز على عقيدة مؤداها أن رأيي صواب يقبل الخطأ، ورأي غيري خطأ يقبل الصواب، فيستفيد الطرفان من نتيجة النقاش، وأحسب أن اعظمهم مكسباً من يكتشف خطأ رأيه، لأنه اكتسب معرفة لم يكن يملكها، على نقيض الآخر فبضاعته ردت إليه، فلا يجب شخصنة الخلاف، فأنا أختلف مع أفكارك وليس مع شخصك، وإن كان ذلك كذلك فيجب أن يطبق هذا ومن باب أولى بين الأنظمة الحاكمة والمعارضة، ففي كل أنظمة الدول النامية تجد النظام والمعارضة على طرفي نقيض، فكل ماتفعله أو تقوله المعارضة أو من ينتمي لها مرفوض ممن بيدهم مقاليد الأمور، فإن كان سيئاً فهو كذلك، وإن كان حسناً فإنما هو الحسن الذي يحمل في طياته كل سوء، لذا يحدث الصدام دائماً لإعتناق هذه الأنظمة مبدأ أن المعارضة لا هم لها إلا إسقاطها، وسحب بساط الحكم من تحت أقدامها، فسجنت وعذبت بل وأعدمت كل من خالفها رأياً، أو ذكرها بسوء متناسية أن من أبسط حقوق الإنسان أن يعبر عن رأيه، مدحاً كان أو ذماً، وأن من أهم المباديء الديمقراطية التي يعتنقها العالم الآن مبدأ تداول السلطات، فالسلطة الحاكمة والمعارضة يتناوبون إعتلاء عرش الحكومات واحدة تلو الأخرى، ويجب أن يتقبل الجميع ذلك، وأن يكون الهدف الأعظم الذي يسمو اليه الكل هو صالح البلاد والعباد، وأن يبين كلاً منهما للآخر مثالبه، وأن يوضح له أيضاً مزاياه بل وينزل على رأيه لو كان صائباً.
وليس مكان المعارضين خلف القضبان، إنما مكانهم قريب من الحاكم ومن مراكز إتخاذ القرار، حتى إذا ما أصاب شدوا على يديه، وأعلنوا عن ما قام به من إنجازات، وإذا أخطأ بينوا له وجه الخطأ وكيفية علاجه وتخطيه والتخلص منه، لذا يجب على الحاكم أن يقربهم منه وأن يستشيرهم في أمور كثيرة، وأن يتحاور معهم، ويتخذ منهم رفقاء في رحلاته خارج البلاد، لا أن يستند لنقدهم له ويتخذه ذريعة للفتك بهم، وإن كان نقدهم له لا يستند الى واقع، فبعض الحق في الباطل لا يجعل الباطل حقاً، كما يجب تفعيل مبدأ تداول السلطة، ويعلم كل حاكم أن المنصب تكليف لا تشريف، فتصح العلاقة بين الفائز بالإنتخابات وغريمه فيها، وليتعلم الجميع مما يحدث في كثير من الدول الديمقراطية، وهاهي إسرائيل العدو اللدود لنا يتم فيها تداول السلطة بكل سلاسة، فهذا نتانياهو رئيساً للحكومة، ثم وزيراً فيها بعد ذلك، ثم رئيساً لها الآن، بل ننظر لما حدث في السنغال حيث لم يوفق الرئيس عبده ضيوف في الانتخابات بعد عقود تولى فيها حكم البلاد، فاتخذه الرئيس الفائز مبعوثاً له في الشرق الأوسط، لم يقل كنت رئيساً، فكيف أصبح مبعوث الرئيس، لأنه اعتبرها كما قلنا تكليف لا تشريف، فليتخلص من أعبائها، ولنتخلص نحن من أفكارنا المارقة، فمدير المدرسة لا يمكن أن يقبل العودة الى تلاميذه لممارسة عمله كمعلم وإن كان هذا هو الأصل، لأن ذلك عيب ولايليق من وجهة نظره، وبالتالي لا يصح أن يصبح وزيراً من كان رئيساً للوزراء، وقس على ذلك وقل ماتشاء.
على أن المعارضة لا تعني النقد الدائم، وتوجيه السباب والشتائم لرموز الحكم في الدولة، فلا علاقة لشخص الحاكم أو المسئول بمهام وظيفته، لأن النقد موجه للصفة وليست للشخص، لذا لا يجب إقحام أمور حياته الخاصة، ولا التعرض لشخصه بالسباب، فالنقد للأفعال وليس للأشخاص، إنما تعني المعارضة أيضاً المدح إن كان له مقتضى، أما أن ترى المعارضة كل مايفعله الحاكم سيئاً وأنه حليف الشيطان في الأرض، فهذه ليست على الإطلاق ولا يجب أن تكون مهمة المعارضة، ولقد رأينا في مجالسنا النيابية على مر التاريخ نماذج شديدة الإحترام من المعارضين، كانوا يصولون ويجولون متحدثين بأرفع وأفضل الكلمات دون أن يتطاولوا على من يستجوبونه أو ينتقدونه، لذا تتسم هذه الفترات من عمر الدول بالتوأمة بين المعارضة والنظام، فتسود الصداقة بين ممثليهم جميعاً، نذكر من هؤلاء في بداية معرفة مصر للنظام التشريعي في عشرينيات القرن الماضي، النواب العظام ويصا واصف، ومصطفى النحاس، مكرم عبيد، وزعيم هؤلاء جميعاً وقائدهم خالد الذكر سعد زغلول، ثم المستشار ممتاز نصار زعيم المعارضة في مجلس الشعب في الثمانينيات والتسعينيات، وأخيراً البدري فرغلي رحمهم الله جميعاً، ثم رأينا بعد ذلك ما رأينا من سباب وشتائم بأقزع الألفاظ، وتراشق بالأحذية، يدل فقط على جهل هؤلاء وضعف حجتهم وعدم قبول كل منهم للآخر، لأن الأمور كلها لا تعدو كونها مصالح يستميت الجميع لتحقيقها، والفوز بالنصيب الأكبر منها، إذاً فإن السبيل الوحيد لتفعيل النظام الديمقراطي، أن تنمو المعارضة في حضن الأنظمة الحاكمة، فالمعارضة الحقة سر بقاء النظام .