مقالات

حمدي رزق يكتب: جيل الطابق المقصوف!

حمدي رزق يكتب: جيل الطابق المقصوف!

حمدي رزق يكتب: جيل الطابق المقصوف!
حمدي رزق

كلمة «المقصوف» فى العنوان أعلاه ليست كلمة عربية قياسية، قد تكون كلمة عامية أو مصطلحًا فى سياق معين. وفى المعجم، قصِف (اسم)، القصِفُ (القابلُ للانكسار)، القصِفُ، المقصوف (سريعُ الانكسار) .. وتوليد لغوى شعبوى شائع، «مقصوف الرقبة» مصطلح يُستخدم لوصف المتمرد على التقاليد والأعراف المجتمعية، وأحيانا يتجاوز ذلك إلى التخلى عن الآداب المرعية، وأصل التعبير يعود إلى «مضروب الرقبة» فى اللغة العربية، ويشير إلى من «يكسر» العرف والتقاليد.

حقيقة نحن جيل لم نكسر عرفا ولم نجرح تقليدا، غاية فى الالتزام الحرفى بقواعد الحياة و تقاليدها وقواعدها المجتمعيّة المرعية، لا يفسر سمعا وطاعة ، بل رشدا وعقلا واستبطانا لمصالح الوطن العليا، جيل يقف زنهار لتحية علم مصر .. وشعاره «تحيا مصر».

لم نبد تبرما ولا تمردا، مشيناها بتؤدة، على مهل، على اعتقاد راسخ بالقضاء والقدر، ونردد معا، «مشيناها خُطى كُتِبَت علَينا ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطيً مشاها.. وَمَنْ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْض فَلَيْسَ يَمُوتُ فِى أَرْضٍ سِوَاهَا»، وساكن فى أرواحنا بيت شعر لأمير الشعراء أحمد شوقى يقول صادقا :» وطَنى لَو شغِلتُ بِالخلدِ عَنهُ .. نازَعَتنى إِلَيهِ فى الخلدِ نَفسي». مشيناها خُطي، خطوة خطوة ، وفرسخا فرسخا ، صعودا إلى قمة المنحدر بغية رؤية شمس الصباح تنير وجه الوطن، فلم نحظ بما حلمنا، فلم نقنط ، ولم نحزن يوما، وعادة ما نقبل اليد وش وضهر حمدا، ونردد مع الحامدين نعمة الأمن والاستقرار، يديمها نعمةً ويحفظها من شر الكائدين ، وآخر دعوانا أَن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين .

عندما سئل المفكر المصرى الكبير الدكتور «مصطفى الفقي» عن موقع جيله بين الأجيال المتعاقبة، قال «جيل الطابق المسحور»، الجيل الذى يسكن طابقا لا يقف عليها المصعد، يتجاهله عمدا، فلم يحظ بما حظت به الأجيال من فرص سانحة فى الطوابق فوقه صعودا فى السلم الوطنى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا .

والسؤال نفسه يلح على جيلنا وقد وهن العظم منا واشتعل الرأس شيبا، وصفا مجازيا قد يصح، «جيل الطابق المقصوف»، الجيل الذى أطبقت عليه من كل حدب وصوب الثورات والحروب والحوائج، لا يكاد يرفع رأسه حذر القصف من مسيرات جهولة تنطلق من منصات إلكترونية مجهولة، تقصف الرءوس بزخات من تويتات وتغريدات مسمومة، تعكر صفو الحياة. جيل شهد فى عقده الأخير، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، شهد بأم عينيه ثورتين متعاقبتين، ثورة ( 25 يناير ) وتلتها ثورة ( 30 يونيو ) بفارق زمنى عامين، ومعلوم فى حياة جيل أى جيل، ثورة واحدة تكفى ، وثورة 23 يوليو كفت أجيالا سبقت لنصف قرن من الزمان، ثورة واحدة كفت أجيالا وأترعتهم تغييرا.

ثورتان إحداهما كانت كافية ليمضى هذا ما تبقى من عمره يتذكرها ويعيش أيامها التالية، ويقاسى تبعاتها الارتدادية العاتية خشية على أمنه وأمانه وحياته وأولاده وأحفاده .

جيل قبل أن يستفيق من الهزات الثورية الارتدادية التى أعقبت الزلزال الثورى الناشط فى الميدان الكبير (ميدان التحرير)، ويلملم شتات أيامه الممزقة، ويمضى نحو تقاعده مطمئنا ، ويعلن اعتزاله بعد رحلة شقاء، ويتمنى تكريما، تدهمه « جائحة « من نوادر الزمان، جائحة كورونا كلفته سنوات من عمره متخفيا فى قعر نفسه من خطر فيروس مميت، حصد من أرواح الجيل وأجيال أخرى أرواحا ثمينة، جيل عاش متخفيا خلف كمامات، فقد كثيرا من روحه ورغبته فى الحياة، وبات شبح الموت أقرب إليه من الحياة، وتمناها ميتة رحيمة ترحمه من عذابات الجائحة التى يفر فيها من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، حذر العدوى . وما إن رفع الله الجائحة عن عباده الطيبين، وتنفست الخلائق الصعداء، وعادت الحياة سيرتها الأولى حتى ابتلينا بحرب أوكرانيا، ونقص فى الغاز والقمح ، وقبل أن نتبين ما هي، إنّ الحروب تشابهت علينا، صدمتنا حرب الإبادة فى غزة، حصدت من أرواح الأشقاء ألوفا مؤلفة، وقبل أن تضع الحرب البربرية أوزارها، نكبنا بحرب الصواريخ والمسيرات بين إيران وإسرائيل، ولا تزال تقصف فينا أغلى ما فينا من إنسانية .

ثلاث حروب واحدة منها كافية ليقاسى جيل من تبعاتها، ما بالك بثلاث حروب متتالية، متتابعة، كل منها يكلفنا مالا نحتمل من آلام، وما يتبعها من ضيقات اقتصادية، وما تستوجب كلفة فى التوقى والحذر من شظاياها الطائرة فى سماء غائمة تظلل النفس بكآبة تقصف الأعمار .

مثل هذا الجيل يحمد ربه على أنه عاش ليري، فى عقد واحد ما لم تره أجيال غنمت العيش الرغيد، وتمتعت بأيامها سعيدة هانئة، وتغنت مع عصافير الصباح، ورددت وراء كوكب الشرق، «وهل الفجر بعد الهجر بلونه الوردى بيصبح، ونور الصبح صحّى الفرح، وقال للحب قوم نفرح.. ».

جيل يعبر عن أزمته الوجودية طيب الذكر «كامل الشناوي» فى مقطع من قصيدته «لست قلبي» بصوت العندليب الأسمر «عبد الحليم حافظ» «قدرٌ أحمق الخطى سحقت هامتى خطاه / دمعتى ذاب جفنها / بسمتى ما لها شفاه/ صحوة الموت ما أري/ أم أرى غفوة الحياة».. قصفت أعمارنا ، ولم تقبر أرواحنا، جيل الطابق المقصوف وصف يراوح مكانه حتى إشعار أخر.

 

 

 

نهى مرسي

نائب رئيس تحرير الموقع
شاهد ايضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى