مقالات

غرباء … ولكن …بقلم الكاتب الصحفي : محمد مرزوق

غرباء … ولكن …بقلم الكاتب الصحفي : محمد مرزوق

رباء ... ولكن ...بقلم الكاتب الصحفي : محمد مرزوق
الكاتب الصحفي : محمد مرزوق

 

ذكر قديمًا في كتب السير التاريخية بأن العلّامة العربي المتصوف « أبي حيان التوحيدي » أقدم على حرق كتبه، بعد أن أصابه العوز وعانى من شظف العيش . وهو الأديب الفيلسوف، الخطيب الفصيح ، المفكر الموسوعي ، يوم ذهب يسأل المعونة من « الصاحب بن عباد » الوزير في الدولة البويهية ، ومن الوزير العباسي « الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون ». وعاد خائب الأمل وناقمًا على عصره . حين ضاق به الحال واشتدت شكوته ولم يصغِ له أحد ، قام بحرق كتبه ومؤلفاته عندما بلغ اليأس مبتغاه ، وقال : « الغريب الحق هو ليس الذي نأى عن وطن بني من ماء وطين. وفقد أهله وأحباءه ، إنما الغريب هو ذلك الإنسان الذي يعيش في وطنه غريبًا » .

الأوطان بيوت تحيي فينا ونحيا فيها .. بيوت تجمع شمل الأحباب تحت سقف. واحد لا تفرق شملهم هنا وهناك كالممزقين .. هي الحضن الدافي الذي يستريح فيها المرء بهدوء. وبكرامة تعلو من إنسانيته ..

نظره المرء لـ أعماق فؤاده:

هكذا هي نظرة كل إمرءٍ في أعماق فؤاده وطنية حقيقية نابعة من إيمان خالص إلى الأوطان الغالية. والتي هي لها طابعها الخاص ورونق المذاق التي تختلف عن أي حب ٍ آخر . وقد يقدم المرء روحه ودمه ويبذل الغالي. والرخيص تضحية من أجل هذه الأوطان كي لا تمس كرامتها قيد أنملة على الإطلاق ، وأن تكون هامتها مرفوعة. وشامخة إلى عنان السماء ولا تهان أو تذل من أحد ٍ مهما كان .

وكل إمرء ٍ عربي حر أصيل ذات ضمير حي ، وفي قلبه مثقال ذرة ٍ من إيمان ، يحب أوطانه حب قد يصل إلى مرحلة الجنون . ولا يمكنه تحمل أي كلمة عليها أو أي تصرف ٍ يصدر حيالها . ويحب أن يعيش فيها كأنه نبت منها منغرس في أرضها ، لا تتخلى عنه أوطانه في أي وقت من الأوقات . وتكون سنده أن طلب منها يد العون والحمى . وأن يحصد الخير فيها ومنها . وأن يجد فيها الوجه الحسن والإبتسامة المشرقة اللذان ينيران دربات حياته المظلمة . واللذان يعيننا على تكملة مشوار حياته دون عناء ٍ أو كلل ٍ أو ملل ٍ .

لكن هذه الصورة الوردية التي رسمها المرء العربي الحر في مخيلة رأسه وأذهانه وبات يعيش على أطلال أنغام وأوتار أحلامها ويمني بها النفس حيال هذه الأوطان صار يراودها بعض نوبات الاعصار العاصف التي قلبت موازين الأمور رأسًا على عقب وعجلت تلك الأحلام تنطفي نورها وتذهب هباء ً سدا مع الرياح وعجلت التنمية المستدامة تسير إلى الوراء ، وكأن الأمل في غد ٍ مشرق ٍ بالخيرات محال الوصول إلى أنواره بشتى السبل .

حياة أبناء العروبة

ومن هنا فإن الغالبية العظمى من أبناء العروبة الذين يعيشون في أوطانهم باتوا ينظرون إلى حالهم المزري وكونهم غرباء بحق ٍ في ديارهم وأوطانهم . وكأنهم ليسوا من أبنائها بل ملفوظين منها ولاجئين إليها وليس لهم مكان فيها .
فلقد أصبحت الكفاءات. والعقول النيرة وأصحاب الفكر الراقي المستنير الذين يريدون خدمة أوطانهم العربية وأن تكون في مصاف الدول المتقدمة التي يشار إليها بالبنان كما كانت من ذي قبل في سابق العهود. وفي صفحات التاريخ اللامع لا مكان لهم في أوطانهم بل منبوذين بكل السبل والأشكال ، وبالتالي أصبحوا غرباء لا بيت لهم ولا وطن يحتويهم ومطرودين وتحرقهم ألسنة النيران المشتعلة .

ومن هنا صاروا طيورًا مهاجرة في شتات الأرض يبحثون بحثًا جثيثًا عمن يقدر قدراتهم العلمية ويستفيدون منها في نفع أوطانهم وشعوبهم ويضعونهم في مكانتهم التي تليق بهم ، فهم لا يبيعون أنفسهم من أجل دراهم معدودات أو شهرة زائفة ، بل يمدون يد العون لمن يرحب بهم في إستثمار عقولهم العلمية في نفع البشرية وإسعادها لا لإلحاق الضرر بها .
وما أناطهم وجعل دمعات عيونهم لا تجف أن أصحاب المال والوساطة والجهالة وعدم الكفاءة في شئ هم الآن السادة في أوطان العروبة.  وتقلدوا المناصب الرفيعة فيها ، وأصبحوا أرباب الكلمة العليا المسموعة في كل مكان.  وأولي الأمر والنهي والسمع والطاعة العمياء ، ومن دونهم هم العبيد والخدم لا يحق لهم شئ في أوطانهم ؛ وكأنهم ورثوا هذه الأوطان كابرًا عن كابر ٍ . وبإشارةٍ واحدةٍ من أحد أصابعهم يمكنوا أن يفعلوا ما يشاءون دون محاسبتهم أو مناقشتهم في شئ ، وأمرهم نافذ بلا محالة أو بدون جدال ، حتى وإن كانوا على خطأ فادح معلوم للكافة .

البحث عن العدالة داخل الاوطان:

وكأنه ليس هناك عدالة وليس هناك مساواة في الحقوق كما تنص دساتير وقوانين هذه الأوطان العربية ، بل كونهم طائفة فوق تلك الدساتير والقوانين ، وعندهم تلك الدساتير. والقوانين حبر على ورق وبلا قيمة تذكر ، وأن خالفوها فلا عقوبة عليهم أو مسألة لهم أو أي مساس لحقوقهم وكرامتهم الإنسانية .

ومن منطلق هذا بات التخلف حليف الأوطان العربية ، وكذلك التدهور في الحالة السياسية. والإقتصادية والإجتماعية والدينية. وصرنا في ذيل الأمم بعدما كنا لسنوات ٍ عديدة ٍ قادة الأمم . فالإغتراب في الأوطان يولّد أشد أنواع المشاعر الإنسانية وأكثرها ألمًا. وتسبب في إنهيار منظومة العلاقات الإجتماعية. واختلالًا في العلاقة مع الذات ، مما يؤدي إلى نشوء فجوة بين الفرد وذاته ، وبينه وبين الأفراد الآخرين والمجتمع .

وإذا كانت الغربة أو السفر والهجرة على المستوى الفردي تفتح منافذ الرحمة أمام الفرد للخلاص من الضغوطات. والصراعات السياسية والدينية والإقتصادية. والثقافية. والخلاص من الاضطهاد بمختلف مظاهره ، أو الرغبة في تحصيل العلم ، فإن عدم عودة قوافل المهاجرين. وإبقائهم بعيدًا عن موطنهم الأم يشكل نزيفًا مستمرًا. وتهديدًا لأي عمليات إعادة بناء البنية السياسية. والإقتصادية والثقافية للبلدان المصدرة للهجرة . ولعل الإحصائيات على صعيد البلاد العربية ترينا حجم الكارثة المحدقة في الحرمان من القوى المهاجرة ، فقد بلغ عدد المهاجرين العرب في الخارج أكثر من 35 مليون يمثلون أكثر من 12% من سكان الوطن العربي .

والمهم في ذلك هو نوعية العقول المهاجرة من مختلف التخصصات . والتي من بينها تخصصات إستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة ، الطب النووي والعلاج بالإشعاع والهندسة الإلكترونية والميكرو ـ إلكترونية. والهندسة النووية ، علوم الليزر ، تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية. وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية واقتصاديات السوق. والعلاقات الدولية ، طبعًا إلى التخصصات المهمة الأخرى في نطاق العلوم الإنسانية. والأدبية ، فهناك علماء وكفاءات متميزة ومن ذوي السمعة العالمية المرموقة . وقد تسببت هجرة العقول العربية بخسائر مالية تجاوزت 200 مليار دولار !!!!! .
انتظروا قريبًا الجزء الثاني من المقال…،،،

سعيد المسلماني

مساعد رئيس تحرير الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى