عاجلقصص وروايات

مذكرات إبراهيم الهلباوي 2

مذكرات إبراهيم الهلباوي 2

مذكرات إبراهيم الهلباوي 2
المحامي إبراهيم الهلباوي

بقلم د: ماهر جبر

مازلنا نغوص ونبحر بين شواطئ ذكريات ذلك العبقري الفذ رجل القانون و المحاماة الأول في زمانه وفي كل الازمان، الهلباوي (جلاد دنشواي التائب) كما أطلقت عليه الصحف آنذاك، ومازلت أدعو كل رجال المحاماة في مصر والعالم العربي، بل كل المشتغلين بالقانون لدراسة حياة، وحفظ مرافعات ذلك الخطيب المفوه، الذي وصفه العقاد بأنه ذا زلاقة لسان لا تطيق نفسها، وقال عنه عبد العزيز البشري :- انه شيخ يتزاحف على السبعين ان لم يكن قد اقتحمها فعلا، عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب، ويبغضه ناس أشد البغض، الا ان هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعا الا التسليم بأنه رجل عبقري، شهرته ملأت الآفاق، وزاع صيته في كل ربوع القطر المصري، حتى ضرب الناس المثل لكل بليغ وكأنه يتحدث بلسان الهلباوي، عبقري بلا منازع، تعلم الانجليزية تحدثاً وتواصلاً مع الآخر وهو في الخمسين من العمر، رشح للعمل رئيساً لمحكمة الإستئناف، وفرح بذلك، لكن قروية بسيطة نصحته بألا يترك المحاماة، ولو قايضوه بالذهب، محتجة بأن مصر بها هلباوي واحد فقط، وقضاة كثيرون، نقيب المحامين الأول الذي ما أن أعلن ترشحه للنقابة، حتى أنسحب على الفور عبد العزيز باشا فهمي قائلاً عنه شيخنا وأستاذنا، وحصل في أول انتخابات على 307 صوتاً من مجموع 323 صوتاً، ولم يمضي فيها إلا سنة واحدة في ديسمبر 1913، ولم يرغب في تجديد إنتخابه وبقي عضواً في المجلس حتى 1918.

يقول الهلباوي عن فكرة إنشاء نقابة المحامين، من أول عهدي بالمحاماة وأنا شغوف بأن أرى للمحاماة نظام أو نقابة تجمع شتاتها وتنيلها شيئاً من حقها، كما يجري أمام المحاكم المختلطة والأجنبية، وعن دور النقابة الوطني يقول الهلباوي، قررنا الإضراب في مجلس النقابة إحتجاجاً على نفي زعماء الوفد خارج البلاد، وإتفقت أنا ومصطفى النحاس باشا، وعبد العزيز فهمي باشا، على تفعيل الإضراب، وقد إتخذ هذا الإضراب طريقاً قانونياً إذ قرر المحامون التنازل عن التوكيل في القضايا التي عهدت اليهم، وكلف للحضور في الجلسة زميل يعتذر عن زملاءه بطلب التأجيل فيما يتعلق بالتنازل عن التوكيل حتى يتسنى للموكلين إختيار محامين آخرين، وتعطل القضاء في جميع المحاكم الأهلية بهذه الطريقة سواء منه الجنائي أو المدني، بالرغم من كون القضاة الإنجليز بمحاكم الجنايات كانوا يتشددون في رفض التأجيل، ويرغبون في نظر القضايا.

وفي مدة يومين تعطلت الجلسات تعطيلاً كاملاً في جميع أنحاء القطر، وأوصدت المحاكم أبوابها لعدم وجود قضاة، ولا موظفين إداريين، ولا محامين، وكانت تلك الشرارة الأولى للإضراب الذي عم مصر كلها، مما إضطر الإنجليز للإفراج عن زعماء الوفد، سعد وصحبه.

النقطة حالكة السواد في حياته فقط هي علاقته بحادثة دنشواي، التي حاول ما بقي من عمره نفي التهمة عنه، لكنه لم يستطع، وهذا ما بيبرر مقولته الشهيرة :- ما اتعس حظ المحامي وما اشقاه، يعرض نفسه لعداء كل شخص يدافع ضده لمصلحة موكله ، فإذا كسب قضية موكله، أمسى عدواً لخصمه دون ان ينال صداقة موكله.

يقول عنه اديبنا الكبير “يحي حقي”، عاش الهلباوي بعد حادثة دنشواي ما يقارب أربعين عاماً، لكن الناس لم تغفر له سقطته تلك، كان يخطب في سرادق ضخم ازدحم فيه أنصار حزب الاحرار الدستوريين من اجل تخليص البلاد من يد المحتلين، وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق، وامتلأ الرجل ثقة وزهواً، وظن ان الدنيا قد صالحته، ولكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى أرتفع صوت في أخر السرادق يهتف “يسقط جلاد دنشواي، فانفض الجميع من حوله، وظلت لعنة زهران ورفاقه شهداء دنشواي تطارده أينما حل أو نزل، فلزم بيته في أواخر حياته، وبدد أموالا كثيرة مما جمعها، ولم يحصل على الباشوية حلم عمره الذي صال وجال من أجله.

إتفقنا معه أو اختلفنا فهو رجل القانون و المحاماة الأول في زمانه، وفي كل الازمان.

زر الذهاب إلى الأعلى