مقالات

مصر.. وصناعة خريطة إقليمية جديدة

مصر.. وصناعة خريطة إقليمية جديدة

مصر.. وصناعة خريطة إقليمية جديدة
الكاتب محمد الشافعى

بقلم الكاتب والمؤرخ / محمد الشافعى

يؤكد فيلسوف الجغرافيا العلامة جمال حمدان.. في موسوعته الأشهر “شخصية مصر“.. أن مصر “دولة دور”.. كما تؤكد حقائق الجغرافيا والتاريخ.. أن منطقتنا التي يطلق عليها “الشرق الأوسط”.. تحظى بوجود ثلاث قوى إقليمية هي “مصر – تركيا – إيران”.. وعلى مدى عقود طويلة.. تعيش هذه القوى في حالة تنافس.. قد يصل في بعض الأحيان إلى حالة صراع.. ولكن مصر كانت وستظل “رمانة الميزان” لهذا الإقليم.. حتى بعد أن عمل الاستعمار القديم والجديد منذ أكثر من سبعين عامًا.. على “تخليق” قوة إقليمية جديدة تستند إلى البطش والعنصرية هي “الكيان الصهيوني”.

وقد برز الدور المصري وعاد إلى ألقه القديم – خلال الأسابيع القليلة الماضية – عندما استطاعت مصر بدعم إقليمي ودولي وقف العدوان الصهيوني على قطاع غزة.. وعقد هدنة بين الطرفين، ثم السعي إلى تثبيت هذه الهدنة والعمل على إعادة إعمار غزة سعيًا للوصول إلى الحل النهائي.. الذي يحقق السلام الشامل والعادل.. والذي يستند على وجود دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.. كما تنص القرارات الدولية.

وقد جاء الدور المصري البارز في وقف المجزرة الصهيونية ضد الفلسطينيين.. ليؤكد الدور المصري الفاعل.. في صناعة خريطة إقليمية جديدة.. يمكن أن نتوقف أمام أهم ملامحها في النقاط التالية.

أولًا: عودة العلاقات المصرية والإماراتية والسعودية والبحرينية مع دولة قطر بعد مقاطعة استمرت لأكثر من عامين.. نتيجة للسلوكيات القطرية تمثل خطوة مهمة على طريق توحيد الصف العربى.. ومحاولة الولوج إلى الملفات المهمة.. وخاصة تلك التي تهدد الأمن القومي العربي.. برؤية عربية تضمن على الأقل الحد الأدنى من تحقيق الأمن القومي العربي.

ثانيًا: بعد ما يقرب من سبع سنوات من العداء الصارخ.. عادت تركيا لتخطب الود المصري.. ومن المعروف أن النظام التركي الذي يرأسه أردوغان ينتمي إلى جماعة الإخوان.. وأن تركيا قد احتضنت فلول الإخوان الذين فروا من مصر بعد ثورة 30 يونيه 2013.. واتخذوا من الأراضي التركية منصة للهجوم على السياسات المصرية بدعم من رئيس النظام التركى شخصيًا.. كما استطاعت تركيا النفاذ إلى الحدود الغربية للأمن القومي المصري.. من خلال عدة اتفاقات مهمة مع حكومة الوفاق الليبية السابقة.. وقد عملت مصر على “فرملة” النفوذ التركي في ليبيا.. كما نجحت في جمع الفرقاء الليبيين.. ليتم التخلص من حكومة الوفاق.. وانتخاب سلطة مؤقتة.. تمهيدًا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال أشهر قليلة.

وفى الوقت الذي سعت فيه تركيا لخطب ود مصر.. راحت أيضًا لعقد مفاوضات مباشرة مع اليونان.. رغم الخلافات الراهنة.. والعداء التاريخي بين الدولتين.. ومن المعروف أن اليونان حليف استراتيجي لمصر في الوقت الراهن.. وفى ذات الوقت تعمل قضية الأكراد على وجود كثير من المناوشات، بين تركيا وكل من سوريا والعراق.. ومن المهم نقل العلاقات مع تركيا من الصراع إلى التنافس.. ويتحقق هذا بشكل أسرع وأقوى من خلال موقف عربي موحد.. أو على الأقل تنسيق المواقف بين مصر والعراق وسوريا وليبيا.

ثالثًا: نجحت إيران في أن تكون زعيمة للإسلام الشيعي، رغم أنها لم تكن شيعية بل كانت أحد أهم أدوات الخلافة العباسية السنية، ولكن الصراع بين الدولة الصفوية – الإيرانية والدولة العثمانية التركية دفع الصفويين إلى اعتناق المذهب الشيعي.. نكاية في العثمانيين السنة.. ومنذ عدة أسابيع طفت على السطح المباحثات السعودية الإيرانية وتتمتع السعودية بمكانة روحية كبيرة لدى كل المسلمين.. نظرًا لوجود المزارات المقدسة على أراضيها.. وتتمتع إيران بنفوذ قوي في عدد من الدول العربية مثل سوريا – العراق – لبنان – اليمن.. ويمكن في حال نجاح المفاوضات الإيرانية السعودية.. أن يتم إنهاء أو على الأقل تبريد العديد من الالتهابات في منطقتنا العربية.. ويأتي في مقدمتها الحرب الدائرة على الأراضي اليمنية منذ سبع سنوات.

وإيران مثل تركيا تحتاج إلى موقف عربي موحد.. للعمل على إعادة إيران إلى منطقة التنافس.. بدلًا من مناطق الصراع التي نجحت في التمدد إليها من خلال وجودها الفاعل في سوريا ولبنان والعراق واليمن.. ويمكن الوصول إلى ذات النتيجة من خلال تنسيق المواقف تجاه إيران.. بين كل من مصر والسعودية والإمارات خاصة في ظل علاقات التبادل التجارى الكبيرة التي تربط بين إيران والإمارات.. ويمكن من خلال هذا التنسيق تحويل إيران إلى ورقة في صالح العرب بدلًا من سعيها الدائم إلى الخصم من الرصيد العربى.

رابعًا: لن يرفع الغرب. وخاصة أمريكا يده عن دعم الكيان الصهيوني.. والذي يمثل قاعدة متقدمة لحماية المصالح الغربية في منطقتنا العربية.. ويشهد الكيان الصهيوني في الوقت الراهن تغييرات دراماتيكية بعد الإطاحة برئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو.. ووجود حكومة ائتلافية من ثمانية أحزاب ستحظى بدعم الإدارة الأمريكية برئاسة بايدن.. وذلك نكاية في نتنياهو.. وتستطيع مصر أن تبني على نجاحها الكبير في وقف العدوان الصهيوني على غزة.. وترسيخ الهدنة وإعادة الإعمار.. من خلال الدفع إلى مسار الحل النهائى.. خاصة أن الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة بايدن.. مازالت تردد أنها مع حل الدولتين.. كما أنها ليست متحمسة للقرارات الهوجاء التي اتخذها الرئيس الأمريكي السابق ترامب تجاه القضية الفلسطينية..

تلك القضية التي ستجد حتمًا طريقها إلى الحل إذا ما عادت لتكون قضية كل العرب.. حيث تمثل فلسطين جزءًا مهمًا من الأمن القومى للعديد من الدول العربية وخاصة دول الطوق الأول.. مصر وسوريا والأردن ولبنان.. وأيضًا لدول الطوق الثاني.. كل الدول العربية.. كما كان يؤكد ذلك الشهيد العظيم عبدالمنعم رياض.

وعلى العرب العودة للتمسك بالمبادرة العربية.. التي تم تقديمها في القمة العربية في لبنان عام 2002.. أو على الأقل التمسك بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر 1947… ذلك القرار الذي يمثل الشرعية الوحيدة لقيام الكيان الصهيوني.. وكان يمنح الفلسطينيين أكثر من 45 بالمائة من مساحة فلسطين الكلية.. ويحتفظ بالقدس مدينة دولية.. ويمنح الباقي لليهود.. ومثل هذا القرار يجب أن يكون سقف المطالبات الذي يطلبها العرب من المجتمع الدولى.. بدلًا من حدود 4 يونيه 1967.. لأن تلك الحدود لا تمثل إلا 21 بالمائة فقط من مساحة فلسطين التاريخية.. أما الضفة الغربية وغزة فهي أقل من 10 بالمائة من مساحة فلسطين التاريخية.. ولو طالبنا بحدود قرار التقسيم- ويستطيع العرب أن يجعلوا هذا المطلب دوليًا من خلال قرارات الجامعة العربية – الاتحاد الإفريقي – اتحاد دول آسيا – منظمة عدم الانحياز – الأمم المتحدة.. فدول العالم الثالث تمثل غالبية أعضاء الأمم المتحدة ولن تستطيع أمريكا وقف هذا القرار الدولي لأن منظمة الأمم المتحدة ليس فيها استخدام لحق الفيتو.. مثل الذي يحدث في مجلس الأمن.. ويجعل أمريكا تمنع كل القرارات الدولية التي تدين الكيان الصهيوني.. حتى لو حصلت على 14 صوتا هى كل أصوات مجلس الأمن ماعدا أمريكا.. لأن الفيتو يعمل على وأد أي قرار مهما حظى من أصوات.

وتستطيع مصر بعد نجاحها في وقف العدوان الأخير وبعد عودة تركيا إلى جادة الصواب.. وبعد التقارب السعودي الإيراني أن تعمل على استثمار مثل هذا القرار الدولي الذي يحقق حلم الملايين بوجود السلام العادل والشامل.. انتظارًا لتحقيق السلام الحقيقي في منطقتنا العربية بزوال الكيان الصهيوني الذي زرعه الغرب كخنجر مسموم في خاصرة الوطن العربى.

خامسًا: نجحت مصر خلال الفترة الماضية في إعادة الدور المصري الفاعل في إفريقيا.. بعد أن تم غيابه أو تغييبه لسنوات طويلة جدًا.. وأصبح لمصر وجود قوي في العديد من الدول الإفريقية.. وخاصة دول حوض النيل وفى مقدمتها الشقيقة السودان.. وسوف يكون لهذا الوجود الفاعل على الساحة الإفريقية دور مؤثر في حسم الخلافات مع أديس أبابا بشأن السد الإثيوبي، بعد أن تمادت إثيوبيا في استفزازاتها وعدم احترامها للقوانين الدولية وسعيها لجعل النيل الأزرق بحيرة إثيوبية خاصة.. وقد حرصت مصر خلال الفترة الأخيرة على مد جسور التعاون وتبادل المصالح مع كثير من دول إفريقيا مثل جيبوتى – الصومال – الكونغو – كينيا – أوغندا.. وقبل كل هؤلاء السودان.. وفى النهاية لن يصح إلا الصحيح في ملف السد الإثيوبى.. فمصر لها حقوق تاريخية ثابتة ولن تتنازل عنها.

وبعد هذه القراءة السريعة لأهم ملامح الخريطة الإقليمية الجديدة.. يتأكد لنا أن مصر قد عادت إلى مسارها الطبيعي “دولة دور”.. وأنها قادرة على حسم الكثير من مشاكل وقضايا المنطقة، لتعود كما كانت في الخمسينيات والستينيات.. رقمًا صعبًا عربيًا وإقليميًا ودوليًا.

نهى مرسي

نائب رئيس تحرير الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى