قصص وروايات

يا فرحة ما تمت

يا فرحة ما تمت 

يا فرحة ما تمت
أرشيفية

كتب / شريف محمد 

..استيقظ متكاسلاً رغم طول السُبات ، لم تشفع برودة أجواء الأول من فبراير ليرتدي ملابس شتوية ، فلازال يمارس نفس الطقوس كلما غادرت” سناء” زوجته وطفليه إلى والدتها ، التحلل من ملابسه المنزلية، تناول الوجبات الدسمة والحريّفة ، صف أكواب الشاي المتراصة في فوضى على ( الكمود) بجوار السرير الوثير المتسع .
المحمول بصوته وإضاءته يبدد ظلام الغُرفة المسدلة الستائر رغم نور الصباح الغائم ، أجاب بتثاؤب :
” السلام عليكم “
صوت حماته على الجانب الآخر وهي تصرخ :
” أنجدني يا محمود..أنجدني “
انتفض جالساً قائلا بفزع :
” سترك يا ستّار “
واصلت حماته بصوتها القوي ونبراتها الصخرية :
” زوجتك أصابها الجنون ، تريد النزول لمصطفى محمود “
ملأت الحيرة ملامحه أجاب متسائلاً :
” مَن مصطفى محمود ؟!”
واصلت حماته الصراخ :
” يا محمود أفِق ، ميدان مصطفى محمود ، لتأييد الرئيس “
بدأ يستوضح الأمر :
” يا ‘حاجة’ الناس تتظاهر ضده في التحرير ، ماذا يدور في ميدان مصطفى محمود ؟، ما الجديد ؟”
ردت حماته بغضب
” أنتَ نائم ، “
فقاطعها : ” نعم نائم منذ أكثر من اثنى عشرة ساعة ، صليت العشاء ونمت “
فإذا بصوت زوجته بعد أن انتزعت المحمول من والدتها :
” الرجل لا يستحق ما يحدث ، ولقد أوضح أنها أشهر ويُغادر ، لماذا التطاول والإهانة ،
كفاهم تعطيلاً لمصالح البلاد والعِباد .”
.أجاب بصوتٍ كله غباء وغفلة :
” من الرجل ؟! ما الموضوع ؟!!”
صرخت بغضب :
” محمود أكمل نومك.” وأنهت المُكالمة.
..بتكاسلٍ قام ؛ انحنى بقامته المتوسطة الطول وخصره المُثقل ببطنٍ متضخمة وجسد ممتلئ تحت شلالات المياه الدافئة ، لم يصدم جسده بالماء البارد كما يفعل يومياً ، فلا حاجة للصدمة فسناء ليست هنا ، ولم يُسرع لاحتساء قهوته السادة فسناء ليست هنا، ولم يستعد للنزول وشراء الإفطار الطازج و أنواع الجبن المستورد فالأولاد وس…اء ليسوا جميعاً هنا، أخرج صحن بواقي الأسبوع ( محشي الكرنب) البارد من الثلاجة ، و( الكشري) المتجمد بلا بصل أو صلصة من (الفريزر) و أودعه ( الطاسة) الجديدة المحرُّم عليه استخدامها؛
وعند ذلك المقعد الملعون من سناء في البقعة المُباركة من الصالة الواسعةالباردة الأجواء بجدرانها الراقية الألوان ، و جهاز التلفاز الحديث ، فكل ما في البيت حديث وجميل ومرتب كما رتبته سناء المرتبة الرقية إلا ذاك المحمود المحدود العقل الذي أعيى سناء في ترتيبه.
ساتراً نصفه الأسفل ببطانية ( ميري) يعشقها من أيام خدمته العسكرية.
اصطدم وهو يفر هارباً من قنوات السياسة التلفزيونية بقناة مصرية تلفزيونية تنقل صوراً من ميدان مصطفى محمود لرجال رياضة وسياسيون يؤيدون الرئيس الثائر ضده من في التحرير، بدأ يشعر بغصة لم يستطع بلع الطعام بعدها ، انتفض واقفاً بسرواله القصير الكاشف عن ساقين قويين لرياضي سابق ، وضع صحن الكشري المختلط بالكرنب ، على المنضدة الفاخرة الخشبية ( لأنتريه) الصالة وأسرع للهاتف الأرضي مهاتفاً حماتهُ:
” السلام عليكم “
أجابت بصوتٍ غليظ يغلبه الغضب :
” وعليكم السلام..”
قال محمود :
” بعد إذن حضرتِك أتحدث لسناء”
أجابت حماته صارخة :
” سناء صح النوم “
أجاب بابتسامة :
” صح بدن حضرتِك”
صرخت بسوط تطاير رذاذه عبر الأثير :
” محمود من الصباح وضغطي مُرتفع ، ولستُ بحاجة لمزيد من البرود ،يكفي ما فعلته بي زوجتك اليوم سلام”
وكادت أذنه تنزف دماً من شدة غلق حماته للهاتف في وجهه.
ماذا يفعل كيف يطمئن على سناء، ليته اشترى لها محمولاً بدلاً من الذي سُرِق، لكن ماذا عن الأولاد ؟! . بغضب أمسك بسماعة الهاتف الأرضي:
” ممكن أتحدث إلى عبدالوهّاب ابني أو شذا “
لم تجبه حماته وسمع صوتها مناديا في الجانب الآخر:
” عبدالوهّاب”
ثوانٍ وأجابه الطرف الآخر :
” صباح الخير يا بابا”
أجاب محمود بابتسامة:
” صباح الفل يا بيدو ياحبيبي أين..”
قاطعه الصوت :
” يا بابا أنا شذا “
أجاب ببهجة وابتسامة :
” قلبي الصغير”
ثم أكمل مسترسلا بعد ذهب عنه التوتر:
” وأين عبدالوهاب ؟”
أجابت شذا :
” ذهب مع خالي ليتصوروا مع الدبابة أسفل العمارة “
واصل استفساره بعد أن عاد لهدوئه:
” و ماما ؟”
رفعت البنت صوتها بغضب دون قصد:
” يا بابا من الصباح وجدتي تحاول الاستنجاد بك لتوقف ماما من النزول إلى مصطفى محمود و الانضمام لمؤيدي الرئيس ، لكنك نمت فأسرعت أمي بالنزول”
تغيرت ملامحه وعاد بذاكرة القلب سنوات للوراء :
” يعني أين هي !”
قال لابنته وقد تملكه القلق :
” انتبهي لنفسكِ وأخيكِ سلام “..
لا يعرف ماذا يفعل انتزع (ريموت) التلفاز المتمدد بجوار صحن الكرنب والمحشي ؛ بدأ يتابع القنوات السياسية ، الاشتباكات طالت من في التحرير عند وصول من في مصطفى محمود ؛ ترى أين سناء ، هل هي هنا أم هناك ؟!، حب عمره وأم أولاده وأجمل حظه من الدنيا لن يُعثر لها عل جثة، تباً لأهلها كيف تركوها تذهب للجحيم بين أولئك وهؤلاء ؟، “وماذا فعلت أنتَ يامحمود عندما استغاثوا بك ؟! “
قال مُحدثاً نفسه ،
” كل ما تبحث عنه حريتك وبطنك ، ولو حساب أعز ما لديك ، كيف للحرية أن تتحقق إذا هرب
الرجال من مسئولياتهم ، “
صرخ بصوتٍ رجّ أركان البيت :
” أناني، حقييير”
قطع صرخاته ر نين جرس الباب ،انتفض واقفا اصطدم بالمنضدة مُسقطاً صحن المحشي بالمختلط بالكشري في هرولته تجاه الباب، ليفتح باب الشقة ليكشف عن سيدة في منتصف الثلاثينات سمراء مستطيلة الوجه فرعونية الجبين ، مغلفة الجسدالأنوثي بملابس شتوية ثقيلة ومعطف بُني لونه خير عنوان على ثقة صاحبته بنفسها .
صرخ بصوتٍ أجش كله طفولة :
” سناء، حب العمر !”، وأحاطها بذراعيه بكل الحب حتى كادت تختنق ،
صرخت بابتسام خجلا أمام أحضانه الدافئة في ذلك النهار من فبراير البارد ، وهي تلقي ما أشترته داخل الأكياس البلاستيكية :
” أكره العنف ، أكره العنف “
ابتعد وهو يتأملها بعينين مشدوهتين وصوت التلفاز يصدح بموسيقى الأخبار والثورة ليردد بهتافٍ وهو يضحك بفرحة:
” الشعب يرفض العنف”
وما هي ثانية حتى تحركت في غضب وسرعة لعمق الصالة لتنزرع أمام الكشري الراقد في أحضان الكُرنُب، فتجحظ عيناها لتصيح بكل ما في الميادين من ثورة :
” طلقني يا محمووود”.
نظر إليها بكل نظرات الاستغراب الممتزج بالشفقة وهو يضع يده على كتفها :
” ياه يا سناء الثورة غيرتِكِ “
فانهارت مرتمية على المقعد حيث البطانية القبيحة متمتمة والدموع تملأ عينيها:
” لا فائدة لا فائدة ..يا فرحة ماتمت..”

مايسة عبد الحميد

نائب رئيس مجلس إدارة الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى
error: <b>Alert: </b>Content selection is disabled!!