45 عاما على رحيله .. عبد الحليم حافظ ليس مجرد مطرب
كتب/ الكاتب الصحفي والناقد السينمائي / أشرف غريب
لم يكن عبد الحليم حافظ مطربا عاديا ..
كثيرون غيره تمتعوا بالموهبة وبراعة الأداء ، بل أن بعضهم فاقوه فى قوة الصوت ومساحته ، وكثيرون مثله كان لهم حضورهم على الساحة فى زمن العمالقة الكبار أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش ، نعم لم يكن الأقوى ، لكنه كان الأقرب إلى الوجدان الجمعى فى عصر كان الالتفاف حول الرمز والمشروع العام سمة له ، نعم لم يكن صاحب المساحة الصوتية الأكثر اتساعا لكنه كان أصدق من تغنى بالعربية فى زمانه وأى زمان ، نعم لم يكن قديسا بلا أخطاء كما أراد أن يصوره البعض ، لكنه كان الأذكى والأكثر قدرة على امتصاص الصدمات ومواجهة النوات والأعاصير .. ولهذا كله بقى عبد الحليم على القمة حتى بعد خمسة وأربعين عاما من رحيله فى الثلاثين من مارس 1977 .
استطاع العندليب أن يصبح – فى ذاته – تاريخا موازيا لمصر خلال الأعوام الثمانية والأربعين التى عاشها بين ضفتى هذه الحياة ، أو قل أن مسيرته فى الحياة تصح أن تكون تاريخا عاكسا لمصر تأثرا وتأثيرا ، أخذا وعطاء ، فالرجل الذى أبصر النور فى الحادى والعشرين من يونيو 1929 بالحلوات شرقية كان ميلاده متزامنا تقريبا مع نشأة جماعة الأخوان المسلمين ، هذه الجماعة التى شكلت الجانب السلبى من تاريخ مصر المعاصر وحتى الأن ، وحينما أتى الفتى اليتيم إلى زحام القاهرة لدراسة الموسيقى فى النصف الثانى من أربعينيات القرن العشرين كان الوطن يعيش أكثر سنوات غليانه السياسى ، وحينما قامت ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 كان المطرب الشاب يبحث عن بصيص ضوء فى الجدار الصلب من الإرث الموسيقى العتيق، وحينما تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية فى الثامن عشر من يونيو 1953 كان عبد الحليم فى اللحظة ذاتها والحفل بعينه يشدو بـ” صافينى مرة ” أولى أغنياته للناس فى حفل عام ، فكان ميلاده الفنى ملاصقا لميلاد الجمهورية فى مصر ، ومن تلك الليلة أصبح الشاب البسيط صوتا للثورة فى كل أحلامها وإنجازاتها مثلما كان صوتا لها فى إحباطاتها وانكساراتها، هو الذى غنى للتأميم والاشتراكية ومبادئ يوليو، وللسد وللعائدين من اليمن وللزهو القومى ، وهو أيضا الذى غنى فى يونيو 1967 للنهار الذى عجز أن يدفع مهر تلك التى على الترعة تغسل شعرها ، وهو نفسه الذى غنى فى أكتوبر 1973للصبية التى كان مهرها النصر والعريس ابن البلد ، ثم .. هو الذى رحل فى مارس 1977 بعد أسابيع قليلة من أهم انتفاضة شعبية فى الثامن عشر والتاسع عشر من يناير العام ذاته.
أما عن لحظة الرحيل نفسها ، فلن تنسى الذاكرة المصرية والعربية هذا الوداع الجنائزى المهيب باحتشاد جماهيرى نادر التكرار ، ومشاهد انتحار لا تزال عالقة فى الأذهان ، إن الجماهير التى احتشدت من ميدان التحرير وحتى مثواه الأخير لم تكن تودع جثمان عبد الحليم بقدر ما كانت فى وداع عصر بأكمله كان العندليب عنوانه الأبرز ، وانتحار الفتاة التى ألقت بنفسها من عليين كان بمثابة انتحار لزمن الرومانسية على أعتاب مقبرة العندليب فى البساتين .
لقد كان رحيله – على المستوى الفنى – إيذانا بقرب نهاية الأغنية الطويلة ومن ثم أفول نجم الحفلات العامة التى يقف فيها المطرب يغنى بالساعات لجمهور يستمع بإنصات وهو جالس فى مكانه قبل أن يظلنا زمان الأغنية الإيقاعية السريعة حيث الاستماع بالخصر كما وصفه الموسيقار عبد الوهاب ، لكن من تبقى من المنصتين ألأوائل والباحثين عن رهافة الحس وصدق المشاعر ما زالوا فى هذا الزمان يلوذون بصوت عبد الحليم وأغنياته المحفورة فى الوجدان .
وحتى سيرته الشخصية ما زالت حاضرة وبقوة فى اهتمامات الملايين بعد كل هذه السنين من الرحيل التى أوشكت أن تكمل نصف قرن من الزمان ، منهم من يراها قصة كفاح ملهمة لكل الساعين إلى تجاوز الصعاب والبحث عن النجاح ، ومنهم من يدفعه فضوله وتعلقه بالنجم الأشهر لمعرفة كل شىء عن ذلك الرجل الذى ما زال حيا فى الذاكرة كل هذا العمر ، ولهذا كله – أكرر – سيبقى عبد الحليم قرينا بالخلود ، صنوا للبقاء ، جديرا بالاحتفاء به فى ذكرى مولده ومماته كل عام ، بل والاحتفاء بفنه فى كل لحظة جزاء ما أمتعنا من عطاء صادق وفن أصيل ، وربما يفسر هذا لماذا يتهافت عشاقه على قراءة كل ما يكتب عنه حتى الآن .