حنا النجار يكتب: تطوير الجيش و الأسلحة في عهد محمد علي باشا
ادرك محمد على ان ثروة البلاد والمحافظة على كيانها المالي من أكبر دعائم الاستقلال ، لأن العمران مادة التقدم ، والثروة الاهلية قوام الاستقلال المالى ، ولا يتحقق الاستقلال السياسى ما لم يدعمه الاستقلال المالى والاقتصادى ، لذلك كان أول ما هدف إليه في سياسته إصلاح حالة البلاد الاقتصادية ، وإنشاء أعمال العمران لتنمو ثروتها القومية ، وتتوافر الأموال اللازمة للتسليح وانشاء المصانع وغيرها .
وقد تولى محمد على بنفسه تنفيذ هذه السياسة الحكيمة ، بعزيمة حديدية ، وبذل فى ذلك جهودا جبارة حتى خلف اعمالا ومنشئات يزدان بها تاريخه ، فشملت البلاد موجة من النهوض الزراعى كفلت لها الرخاء والأموال الطائلة التي يمكن بفضلها الاحتفاظ بقوات عسكرية كبيرة .
ويكفينا ان نمر فى عجالة قصيرة على ما أنشىء فى عهد محمد على من ترع و جسور وقناطر أهمها القناطر الخيرية ، وتوسيع نطاق الزراعة والانقلاب فى زراعة القطن الذي يعتبر عماد الثروة فى مصر ، وزراعة الزيتون والنيلة والخشخاش ، وكذلك إنشاء مصانع الغزل والنسيج والجوخ والحرير والصوف والكتان والحبال والطرابيش ، ومعامل سبك الحديد والالواح النحاسية ، والسكر والصابون ، لندرك مدى ما كانت عليه سياسة مصر العسكرية من سعة آفاق أهدافها التى كانت ترمى الى جعلها دولة صناعية زراعية نامية الثروة زاهية العمران وأخرى القوى العسكرية ، يمكنها أن تحقق مبدأ الكفاية الذاتية لقواتها وتصون استقلالها .
وليس ادل على ماجنته مصر من ثروة ورخاء بفضل هذه السياسة الحكيمة من قول محمد محمد على للقنصل الفرنسي ” ميمو ” عندما انذره تدخل أوروبا
( وتخطيء أوروبا خطأ آخر باعتقادها انى فى حاجة الى مال ، واكبر دليل على عدم صحة هذا الاعتقاد اننى لا ابيع محصول القطن ، مع انه من اهم موارد مصر ، وجنود يقبضون مرتباتهم بانتظام ، وأن العقد قرضا ما فى بلاد ما ، ولست مدينا لأحد بشئ ) .
السنا نلمس بوضوح وجلاء عبقرية محمد على الفذة ، التي أضحى الجيش المصرى بفضلها أكبر دعامة لاستقلال البلاد ؟ ، وانه ليكفينا ان نعلم ان تعداد الجيش في عام 1831 بلغ 70.000 مقاتل ، ثم بلغ فى عام 1833 حوالى 194.032 مقاتل بينهم 25.143 من البحارة وعمال الترسانات البحرية ، وفي عام 1839 زاد الى 235.880 مقاتل .
الجيش قبل محمد على :
الآن لنعد الى الوراء لنرى حالة القوات العسكرية قبل محمد على …
كانت مؤلفة من عناصر تميل بطبيعتها إلى الشغب والفوضى ، في معظمها من الأكراد والألبان والشراكسة الذين يطلق عليها لفظة ( باشبوزق ) اى الجنود غير النظاميين ، ولم تكن لمثل تلك المجموعة المختلطة من الأجناس الغربية عن مصر الشعور القومى الذى يشعر به أبناء البلاد ، وكان تنظيم هذه القوات خاضعا الانقلابات السياسية التي أملتها الثورات فى الولايات العثمانية والمعارك والاختلافات التي ألفتها حياة المماليك أثناء القرن الثامن عشر .
ويضاف الى تلك القوات جماعات من الأعراب الذين كانوا يهددون الأمن في بعض الاقاليم ، ولم تكن هذه القوات فى مجموعها خاضعة لنظام عام او تدريب ثابت منسق ، وإنما كانت أعمالها عبارة عن حرب عصابات وحرم كر وفر .
خلق الجيش الحديث :
رأى محمد على ان هذا الجيش لا يعتمد عليه فى تحقيق مشروعاته العظيمة لتأسيس ملكه الجديد ، فبذل جهده في إنشاء جيش من الفلاحين أبناء البلد ، وقد اتيحت لمحمد على الفرصة ليشهد الجيوش الاجنبية فى قتالها ، فقاتل الفرنسيين فى معركة الرحمانية ، واستطاع أن يشهد نظامها الحديث ، وتكتيكاتها وقارن بين هذا وبين الحالة التي عليها الجيش ، فصمم على أن يستبدل جنوده غير النظامية بجيش على النظام العسكرى الحديث متى سمحت الفرصة لذلك ، وقد كان يعلم تماما صعوبة هذه المهمة لتغلغل الروح الرجعية فى الاهالى ورفضهم لكل جديد وخصوصا اذا جاء على يد الأجانب ، اضف الى ذلك ان حالة أهل مصر كانت تدب فيها الفوضى والاهمال منذ عهد طويل تحت حكم الاتراك والمماليك ، ولذلك لم ير من الحكمة التعجل فى تنفيذ مشروعه .
مدرسة اسوان الحربية:
بعد عام 1815 كانت حروب نابليون قد انتهت وسرحت جيوشهم ، وأصبح كثيرون من ضباطه بلا عمل ، واستقدم محمد على منهم كثيرين واشهرهم ” سيف ” الذى أصبح فيما بعد ” سليمان باشا الفرنساوى ” .
أخذ سيف على عاتقه إنشاء جيش مصرى حديث ، فأستصدر أمرا من محمد على باشا فى 8 اغسطس سنة 1821 بإنشاء مدرسة أسوان الحربية ، بدأ فيها بتعليم العدد الضروري لتولي مهمة مهمة ضباط الجيش ، وجمع له محمد على لهذا الغرض ألفا من المماليك الشبان الذين تألفت منهم نواة الجيش المصرى ، وكان برنامج التعليم الموضوع يستغرق ثلاث سنوات تقريبا ، وليس أدل على اهتمام محمد على بأمر هذه المدرسة وعلى مقدار ما كان يعلقه عليها من آمال من هذه الرسالة التى وجهها فى 12 محرم سنة 1238 هـ ( 29 سبتمبر 1822 ) الى نواة ضباط جيشه الجديد بأسوان والتى تنبئ عما فى مكنون نفسه للنهوض بدولته الجديدة .
التجنيد:
كانت حركة التجنيد قائمه على قدم وساق فى جميع انحاء البلاد ، ولم يأت عام 1823 حتى تألفت الاورط الست الاولى فى الجيش المصرى ، وعين آلاف ضابط الذين تم تدريبهم بمدرسة أسوان الحربية ضابطا فى هذه الاورط .
استمرت سياسة التجنيد والتعليم فى تزايد واتساع حتى وجد فى معسكر بنى عدى فى يوم من الأيام المجيدة ثلاثون اورطة بكل واحدة منها 800 جندى .
وقد برهن الجنود المصريون فى جميع المعارك الاولى التي اشتركوا فيها على أنهم مقاتلون أكفاء من الطراز الأول ، وابدوا من البسالة والإقدام والصبر ما كان حديث المؤرخين ، وشهد به الأجانب والقناصل .
وقد اراد محمد على باشا ان يعرب عن تقديره لهم فأنعم بالميداليات الذهبية والفضية على كثير من جنود الالاى الثانى بعد عودته من حرب الحجاز في أكتوبر 1826 تشجيعا لهم وتقديرا لبسالتهم ، وأمر بأن يقيم اللى فى القاهره ليكون حامية لها .
المعاهد العسكرية:
رأى محمد على باشا أن ينظم التعليم العسكرى فى مصر ، فأمر بتأليف مجلس يشرف على شئون التعليم والتدريب وسماه ( قومسيون المدارس العسكرية ) وكان يتألف من ناظر الجهادية رئيسا وعضوية قادة الالايات وغيرهم .
مدرسة القصر العينى:
ووجه محمد على باشا نظره الى ناحية الإعداد والتجهيز ، فأنشأ مدرسة قصر العينى سنة 1825 ، وكان عدد تلاميذ هذه المدرسة يتراوح بين الخمسمائة والستمائه من أبناء الأتراك والمصريين ، وتتفاوت أعمارهم بين الثانية عشر والسادسة عشر ، وكانت هذه المدرسة تقوم بمرحلة التعليم الاعدادى ، يتلقى فيها الطلبة اللغات العربية والتركية والايطالية والرسم والحساب والهندسة ، وبعد اتمام الدراسة فيها يوزع الخريجون على مختلف مدارس الجيش العالية التى سيأتى الحديث عنها ، وقد توسع محمد على فى هذه المدارس وزاد عدد طلبتها لأجابة طالب الجيش حتى بلغ عدد تلاميذها فى عام 1834 ألف ومائتين .
مدرسة البياده بالخنقاه:
علاوة على مدرسة اسوان الحربية السابق ذكرها ، انشأ محمد على فى عام 1832 فى الخانقاه هذه المدرسة ، وذلك تبعا لمقتضيات التوسع فى الجيش ، وانتقلت بعد سنتين الى دمياط ، وكان عدد طلبتها 400 من المصريين يمكثون فيها ثلاث سنوات ، ويتعلمون فيها التمرينات والادارة العسكرية واللغات العربية والتركية والفارسية والطبوغرافيا ورسم الخطط والاسلحة والشئون الادارية والرسم والهندسة والرياضة البدنية ، وقد عهد بإدارتها إلى الضابط ( يولونينو ) من ضباط نابليون ، ثم تولى إدارتها بعده يوسف آغا .
مدرسة أركان الحرب:
انشئت هذه المدرسة فى 15 اكتوبر 1825 للدراسات العليا بقرية جهاد آباد بقرب الخانقاه بمشورة عثمان نور الدين افندى ، وقام على تأسيسها الكابتن ( جول بلانا ) الفرنسى ، وأقيم للمدرسة بناء جميل ومنازل على النمط الحديث ، وكانت نواتها الاولى 18 ضابطا ، وكان بها بعض المدرسين الأجانب ، وكانت مدة الدراسة ثلاث سنوات ، ويعين خريجيها اركان حرب فى الوحدات الفنية فى الجيش .
مدرسة المدفعية بطره:
تأسست عام 1831 وانتخب لها 300 من خريجى مدرسة قصر العينى التجهيزية لدراسة فن المدفعية والتدريب على مختلف أنواع مدافع الميدان والهاون ، وكانت المواد التى تدرس فى المدرسة هى الرياضيات والكيمياء والرسم والاستحكامات ولغة اجنبية واللغة العربية والتركية علاوة على فن المدفعية والمساحة .
وقد وزع خريجوا هذه المدرسة على وحدات المدفعية بالجيش وخصص بعضهم للعمل بمدفعية الأسطول .
مدرسة السواري بالجيزة:
انشئت فى الجيزة عام 1831 وعهد بها الى المسيو ( فاران ) الذي كان ضابط أركان حرب المارشال ( جوفيون سان سير ) وكان عدد طلبتها 200 من خريجى المدرسة التجهيزية وغيرهم ، ومدة الدراسة فيها ثلاث سنوات او اربع ، يتلقى فيها الطلبة فنون الفروسية وركوب الخيل واللغات علاوة على باقى العلوم العسكرية المتقدمة ، وكان لهم مدرب ألماني اسمه ( الهر . م . بير ) لتدريبهم على فنون الفروسية .
مدرسة الطب والمستشفى العسكرى:
شيدت بين الخانقاه وأبى زعبل ، وعهد بشؤونها الى الدكتور ( كلوت بك ) رئيس أطباء الجيش ، والتحق بها 140 طالبا يدرسون الطب ، وخمسون لدراسة فن الصيدلة ، وكان بالمستشفى 730 سريرا للمرضى من رجال الجيش ، وأنشأ مجلس صحى للإشراف على الصحة العامة ، واختيار الأطباء والصيادلة للجيش بعد امتحانهم .
مدرسة الطب البيطرى:
شيدت بجوار المستشفى العسكرى لدراسة الطب البيطرى عام 1837 ، والحق بها 120 طالبا ، وقد تولى ادارتها مصريون بعد المسيو ( هامون ) وحتى عام 1849 ، ونقلت هذه المدرسة فيما بعد إلى شبرا .
مدرسة الهندسة العسكرية:
انشئت فى عام 1844 فى بولاق ، وكان طلبتها يتخصصون فى اعمال هندسة الترع والالغام والكبارى والطرق والاستحكامات .
مدرسة الموسيقى العسكرية:
انشئت فى قرية جهاد آباد ، وكان عدد طلبتها 200 ، ثم نقلت الى الخانقاه ، وانشئت مدارس أخرى للموسيقى فى القلعة وأثر النبى .
مدارس الوحدات “محو الأمية “
علي محمد علي بأمر تعليم جنود الجيش ، فألحقت مدارس بوحدات الجيش المختلفة والأسطول لتعليم القراءة والكتابة والحساب للجنود ، وكانت الحكومة تشجع المتفوقين منهم بترقيتهم قبل أقرانهم .
البعوث العسكرية:
وجد محمد على بعد خلق النظام العسكرى الحديث فى مصر وتأسيس هذه المدارس الحربية والمؤسسات التى لاغنى عنها لجيش وطنى ، انه لايزال في حاجة ماسة الى الاجانب الذين استقدمهم لمعاونته فى هذا الشأن ، ولكن نفسه الطموحة دفعته إلى التفكير فى تمصير التعليم فى الجيش المصرى ، فعمل على إيفاد البعوث من الشبان الذين أهلتهم معاهد العلم في مصر إلى أوروبا يتموا دراستهم بها ، ويعودوا لتولى المراكز الهامة فى التعليم العسكرى .
الصحافة العسكرية:
على محمد على بالصحافة العسكرية والمطبوعات فأنشأ المطبعة الاميرية او مطبعة صاحب السعادة فى عام 1819 ، وكانت تقوم بطبع ما يحتاج إليه الجيش من الكتب اللازمة للتعليم ونشر ما ينبغي نشره من القوانين والتعليمات العسكرية ، ومن أجل هذه المطبعة حاول محمد على أن ينشئ صناعة الورق على ضفاف النيل كما كان أيام الفراعنة ، واستطاع أن يجعله صناعة وطنية فيما بعد ، وكان المصنع ( الكاغد خانة ) يخرج بعض أصناف الورق ، وكانت مصر تصدر منه الى المغرب واليمن والحجاز ، وبجانب مطبعة بولاق كانت للجيش مطابع خاصة واهمها مطبعة المدفعية بطره ، واخرى لدراسة الطب فى ابى زعبل والثالثة في مدرسة الفرسان بالجيزة ، ومطبعة القلعة الخاصة ( بجرنال الخديوي ) ، ثم أصدر محمد على الوقائع المصرية فى عام 1829 وكانت توزع على ضباط الجيش .
الصناعات الحربية:
رأى محمد على أن إنشاء جيش مصرى حديث لا يقام إلا بأن يجد كفايته من السلاح والذخيرة والمعدات فى داخل البلاد ، لأن الاعتماد على جلب العتاد من الخارج يعرض قوة الدفاع الوطنى للخطر ، ويجعل الجيش والبلاد بأسرها تحت رحمة الدول الأجنبية التى تتحكم فى تموينه بهذه المستلزمات الضرورية لكيانه .
لذا هدفت سياسته إلى إنشاء مصانع الاسلحة فى مصر كى تكون مطالب الجيش منها متوفرة دواما ومناسبة لما يتطلبه التسليح .
ترسانة القلعة:
وكان أول ما اتجه إليه التفكير هو إنشاء ترسانة القلعة لصناعة الاسلحة وصب المدافع ، وقد اتسمت ارجاؤها ولاسيما بعد عام 1827 ، وكان اهم مصانع الترسانة وأكثرها عملا هو معمل صب المدافع الذي كان يصنع كل شهر ثلاثة مدافع ميدان أو أربعة من عيار ثمانية أرطال ، وصنعت فيه مدافع الهاون عيار 8 بوصة وعيار 24 بوصة ، وكان يشرف على ادارة هذه الترسانة العظيمه أحد ضباط المدفعية الأكفاء وهو اللواء ابراهيم باشا أدهم ، وقد اشتغل 900 عامل فى معامل الاسلحة وكانت تنتج فى الشهر الواحد من 600 الى 650 بندقية ، وكانت البندقية الواحدة تتكلف 12 قرشا .
وفى مصنع آخر كانت تصنع زنادات البنادق وسيوف الفرسان ورماحهم وحمائل السيوف واللجم والسروج وملحقاتها من صناديق المفرقعات ، ومواسير البنادق ، ولما زار المارشال ( مارمون ) هذه الترسانة عام 1834 اعجب بنظامها واعمالها وقال عنها ( ان معامل القلعة تضارع احسن معامل الاسلحة فى فرنسا من حيث الأحكام والجودة والتدبير ) .
مصنع الأسلحة بالحوض المرصود:
لم يكتف محمد على بمصانع القلعة بل انشأ فى الحوض المرصود عام 1831 معملا لصنع البنادق بلغ عدد عماله 1200 ، وكان ينتج 900 بندقية فى الشهر الواحد على الطراز الفرنسى ، وقد انشىء مصنع ثالث للاسلحة فى ضواحى القاهرة ، وكانت المصانع الثلاثة تصنع فى السنة 36.000 بندقية عدا الطبنجات والسيوف .
ترسانة السفن الحربية بالاسكندرية:
لم يغفل عاهل مصر عن ضرورة إنشاء ترسانة تصنيع السفن الحربية ومعدات الأسطول ، فأنشأ ترسانة بولاق لصنع السفن الكبيرة ، ثم أعقبها دار الصناعة الكبرى للسفن الحربية بالاسكندرية .
معمل البارود “الكهرجالات” :
أقام محمد على معملا للبارود بطرف جزيرة الروضة بعيدا عن العمران ، وقد تعددت معامل البارود فى مصر بعد ذلك ، وكان إنتاجها عام 1833 .