مقالات

أثر الفن الجيد علي الأخلاق الحميدة

أثر الفن الجيد علي الأخلاق الحميدة

أثر الفن الجيد علي الأخلاق الحميدة
حسين عبدالصمد زيدان إمام وخطيب بوزارة الاوقاف المصرية

كتب: حسين عبدالصمد زيدان 

إن الفن بمثابة خيط مغزول بدقة ينسج جميع مظاهر الحياة العصرية في ثوب قشيب رائع ، وإذا كانت الأخلاق الإسلامية تشمل كل مجالات الحياة ، فإن للأخلاق الإسلامية صلة وثيقة، وارتباطاً قوياً بالفن والجمال، فنحن نرى هذا الارتباط واضحاً في ربط القرآن الكريم بين الجمال والخلق، والتأمل في الكون الفسيح بما فيه من زينة وجمال، وأن هذا التأمل في هذا الجمال هو وسيلة قوية للتعرف على الله، وتقوية الإيمان به، وذلك في آيات كثيرة، لا يتسع المقام لذكرها، ويرجع إليها في مظانها، فلو رجع الباحث إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، للمفردات التالية: “جمال” “جميل” “زينة” “طيبات” “زخرف” إلى آخرها، لوجد كماً هائلاً من الآيات القرآنية التي تقرر مبدأ الجمال، وصلته بالإيمان والأخلاق.

أثر الفن الجيد علي الأخلاق الحميدة
الأخلاق

ولا يكتفي القرآن الكريم في تقرير مبدأ الجمال، بل تذهب آياته الكريمة إلى مدى أبعد، حيث تجعل الجمال والقبح أو الطيب والخبيث علة للتحليل والتحريم، فيصبح الجمال دليلاً على الحِلِّ، ويصبح القبح دليلاً على التحريم.

نلمح هذا واضحاً في قوله تعالى واصفاً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿حِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ الأعراف: 157. والآية واضحة الدلالة تشير إلى أن الطيب علة التحليل، وأن الخبث علة التحريم، وما الخبيث في ميدان الطعام إلا القبيح والسيء، وما الطيب إلا الجميل.

ويتأكد هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ المائدة: 90. وقال تعالى: ﴿قلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ الأنعام: 145.

أثر الفن الجيد علي الأخلاق الحميدة
الأخلاق

إن كلمة “رِجْس” في الآيتين تشير بوضوح إلى علة التحريم، والرجس هو: القذر والنجس، وهو القبيح، أي الوجه المقابل للجمال.

أرأيت ديناً يجعل الجمال والقبح علة في التحليل والتحريم؟ إنه الإسلام، فهل بعد ذلك من عناية بأمر الجمال؟!

إنه تدريب وتربية للمسلم من خلال النص القرآني أن يستعين بالمقياس الجمالي في إتيان الأشياء أو الابتعاد عنها. ألم يطلب القرآن الكريم من المسلم ألا يرفع صوته بغير ضرورة؟ ثم كان التعليل لذلك هو القبح ولنستمع إلى النص الكريم: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ لقمان: 19.

إن المفسرين يقولون في مثل هذا المقام: إن وما بعدها في مقام التعليل. أي: واغضض من صوتك لأن أنكر الأصوات هو صوت الحمير. يقول ابن كثير: “وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم”،() وهكذا يعلل التحريم بالقبح، وهو تعليل بمقياس جمالي.()

وفي نفس السياق في الربط بين الجمال والفن والأخلاق، تشير أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، من حيث الدعوة إليها، والاهتمام بها، والربط بينهما، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على الجمال، وإن كان في أمر لا علاقة له بالدنيا، بل هو من صميم الآخرة، فعندما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما يدفن في الأرض، نسي من يدفنه، فجوة صغيرة في القبر، فقال له صلى الله عليه وسلم: اردمها، فقال الرجل: يا رسول الله، أو يضره ذلك، أو ينفعه؟ قال: لا، ولكنه يؤذي العين.

أثر الفن الجيد علي الأخلاق الحميدة

فالرجل القائم على دفن ابن النبي صلى الله عليه وسلم، تساءل متعجباً: أو تضره الفجوة الصغيرة في قبره، حيث إنها لن تدخل له في الشتاء برداً فيتألم، ولا حراً في الصيف فيتعب، وهو ميت، والمكان قبر، فلم الاهتمام بردمها، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها تنافي الجمال، رغم أنه مكان الأصل فيه أنه يذكر الآخرة، ومستقر الإنسان بعد وفاته، ولكنه صلى الله عليه وسلم يعنى بالربط هنا بين أمور الآخرة والجمال الفني لشكل القبر.

ثم نراه في حديث آخر يربط صلى الله عليه وسلم بين أهمية أن يجمع الإنسان بين جمال المظهر، وحسن الخلق في المخبر، عندما مر رجل حسن الهيئة، ولكنه سيء الخلق، ومر رجل آخر متواضع الهيئة، حسن الخلق، فقال عن حسن الخلق المتواضع: هذا خير من ملء الأرض من هذا.

وفي الحديث الأهم هنا، والذي يبين صلى الله عليه وسلم الصلة بين الخلق والجمال الظاهري، وأن من يجمع بينهما هو من أوتي خيراً كثيراً، فنرى دعاءه عند رؤيته وجهه في المرآة، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم كما حسَّنت خَلْقي، فحسِّن خُلُقي»، فالخلق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفن والدين، وبالحياة عموماً.

وكما يقول أحد علماء فلسفة الأخلاق المعاصرين: “علم الأخلاق، وعلم الجمال، ابنا عم، على معنى أنهما يجمعهما نسب واحد، وهو أن كلا منهما يتخذ لنفسه هدفاً هو الإنسان: فعلم الأخلاق يبحث في الإنسان من ناحية ما يجب أن يكون عليه سلوكه الخاص والعام، وعلم الجمال يبحث في الإنسان من ناحية اللذائذ التي تبعثها مناظر الأشياء الجميلة في الإنسان”().

ولعل نظرة عامة على تعريف الفن في المعجم الفلسفي تخبرنا بعمق الصلة بين الأخلاق والفن، إذ يعرفه صاحب المعجم الفلسفي بـ : “الفن بالمعنى العام هو جملة من القواعد المتبعة لتحصيل غاية معينة، جمالاً كانت أو خيراً، أو منفعة، فإذا كانت هذه الغاية هي تحقيق الجمال سمي بالفن الجميل، وإذا كانت تحقيق الخير سمي الفن بفن الأخلاق، وإذا كانت تحقيق المنفعة سمي الفن بفن الصناعة” ().

إذا اتضحت بهذا الشكل العلاقة والصلة بين الفن والأخلاق الإسلامية، من حيث رؤية الإسلام وتصوره لها، فإن هناك مبدأ يعلنه أرباب الفن، هو مبدأ “الفن للفن”. فهل الفن للفن، وليس له علاقة بالأخلاق أو القيم والمثل والعليا، فالفن غايته الفن فقط؟ هذه نظرية تبناها الكثير من أهل الفن والإبداع في الغرب، وحاكاهم فيها وقلدهم الكثير من فناني العرب.

فأصحاب هذه النظرية يذهبون إلى أن الأخلاق وضوابطها لا علاقة لها بالفن، وإذا دخلت على الفن فإنه سيحرم من أهم ميزاته وهي حرية الإبداع والتجديد، وهو كلام لا يصح، لأن الإسلام وأخلاقه لا يقف حجر عثرة أمام الإبداع الفني، ومنشأ هذه النظرة: الفن للفن، أن الفنان يبدع فنه لنفسه لذاته، أو لذات الفن نفسه، ولا علاقة للقيم ولا للمجتمع بفنه، وهو كلام ينطوي على مغالطة كبيرة، فحتى الفنان الذي لا يؤمن بدين، أو بقيم أخلاقية تضبط عمله وحياته، فهو يبدع بفنه لأجل المجتمع، ويخرج بفنه على المجتمع وينتظر حكم المتلقي أو المشاهد لإبداعه الفني، فإذا لفظه المجتمع ورفض فنه، فإنه حتماً سيلجأ إلى وسائل أخرى يتقبل بها المجتمع فنه، وفي ذلك دلالة على أن الفن ليس للفن فقط، قد يكون الفن للفن كهدف جانبي فرعي يضاف إلى الهدف الأكبر وهو خدمة للمجتمع، وترقية له، ونهوضا به.

و”أصحاب نظرية “الفن للفن” الذين يحكمون على الفنون من ظاهرها وأشكالها الفنية، دون التقيد بمضامين معينة، ويكتفون بأن يكون الإنتاج فناً فحسب، أصحاب هذه النظرة يرفضون أخلاقية الفن، ونحن لا نقرهم على زعمهم، فالإسلام ينظر إلى الفن ويؤكد فاعليته وإيجابيته، وأن المسلم محاسب على كل قول أو فعل يصدر عنه، لكننا في نفس الوقت نستطيع أن نذهب عن عقولهم مخاوفهم التي تدهمهم من جراء الأشكال الفنية، فهم يعتقدون أن الالتزام يشوه الأشكال الفنية، وبالتالي سيصبح الإنتاج شيئاً غير الفن، ونحن معهم في أن الشكل الفني يجب أن يظل محافظاً عليه، فلا فن بدون شكل معين، المضمون وحده لا يقوم كعمل فني، هذا مؤكد، فقد يكتب أحدهم مسرحية ثرية المضمون، قوية المعنى، نبيلة الغاية، لكنها مهلهلة البناء، شائنة الحوار، لا عمق في تصوير شخصياتها،

 ولا حياة في حركتها المسرحية، مثل هذه المسرحية لا تعد فناً على الإطلاق، بل هي مجموعة من الخواطر والآراء أو المبادئ قذفوا بها على قارعة الطريق..” ().

فإذا ما تساءل إنسان هنا: إذا كان الفن له رسالة أخلاقية، فأين نعد الأدب الساخر، والفن الساخر، والفن الذي هدفه الترفيه عن الناس؟ بأننا هنا سوف نخرج ألواناً كثيرة من الفن بحجة أن الفن لا بد له من هدف، ورسالة؟

وهو أمر غير صحيح، فلا تنافي هنا بين أخلاقية الفن ورسالته، وبين أن يكون من أغراضه إمتاع الناس، وإشباع أرواحهم ونفوسهم، فحتى مزاح المسلم وسخريته لها هدف ورسالة وليست لمجرد المزاح والتسلية، وهي تمتزج بالخلق كذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم وصحابته يمزحون، ولكنه يمزح ولا يقول إلا صدقاً، وينهى عن المزاح بالترويع للنفس المسلمة، لا مانع من الأدب والفن الساخر، لكننا نشترط في اللون من الفنون أن يتحلى بالعفة وعدم الإفحاش في القول، وليس هذا تزمتاً، أو ضيق أفق منا، “لأن الأدب الساخر في العالم لم ينل مكانته السامية على يد برناردشو وإبسن وغيرهما، إلا لأن سخرياتهم كانت تنصب على أوضاع فاسدة في المجتمع، وتحمل حملة شعواء قاسية على القيم والتقاليد الزائفة، كانت سخرياتهم تعالج قضايا كبرى عالمية أو محلية، كانت تنتزع الإعجاب والضحكات، لكنها في نفس الوقت كانت تحرض على قلب الأوضاع المتعفنة، وتحطيم قلاع الجمود والرجعية والكبرياء الفارغة، وتحمل على النزوات الفاسدة التافهة، وتحاول أن تقيم المجتمع على أسس نظيفة واقعية” ().

وما ذهبت إليه فلسفتنا الإسلامية، هو نفس ما ذهب إليه فلاسفة آخرون من الغرب، ومن منظري المذاهب الفلسفية الأخرى، “فقد أدرك ذلك منذ زمن مبكر كثير من المفكرين والفلاسفة، وعلى رأسهم أرسطو بنظريته في التطهير أو الكاثرسيس، فنراه يقرر أن للفن مضموناً أخلاقياً يتمثل في التسامي بأرواحنا، ومساعدتنا على مقاومة أهوائنا، ومعنى هذا أن للفن صبغة تطهيرية، تجعل منه أداة فعالة لتنظيم البدن، وتصفية الأهواء، وتنقية الانفعالات، ويضرب أحد فلاسفة علم الجمال مثلاً بالموسيقى، فيقول: إن النغم صورة مهذبة من الصياح، بحيث إن الموسيقى لتبدو بمنزلة تنظيم تلك الأصوات التي يصدرها الإنسان حين يئن أو يصيح، أو يتأوه، أو ينتحب.. وهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى الغناء والرقص، وغيرها من الفنون، فإن الإنسان لا يتخذ من التعبير الفني – في كل هذه الحالات – سوى مجرد أداة لتنظيم انفعالاته، إن من شأن الفنون أن تساعدنا على الشعور بذواتنا، وتعرُّف حقيقة مشاعرنا، فهي أشبه ما تكون بمرآة حقيقية للنفس، تنعكس على صفحاتها كل أهوائنا، وعواطفنا وانفعالاتنا وأفكارنا.

والواقع أنه إذا كانت هناك علاقة وثيقة بين الفن والأخلاق فما ذلك إلا لأن الفنون الجميلة تطهر أهواءنا وتنقي انفعالاتنا، وتحقق ضرباً من التوافق بين أحاسيسنا وأفكارنا، أو بين رغباتنا وواجباتنا، إننا نشعر بضرب من السعادة العميقة حينما نرى الشيء الجميل؛ لأننا نستشعر عندئذ توافقاً عجيباً، هو الذي ينتزع من نفوسنا كل إحساس بالصراع أو التمزق، وكأن الإحساس بالجمال يقترن في نفوسنا بإحساس أخلاقي هو الشعور بالسلم أو الطمأنينة أو التوافق النفسي”().

ويقول ماوتسي تونج الزعيم الصيني الشيوعي: “إن القصة الثورية والمسرحية الثورية، والفيلم الثوري تستطيع أن تخلق كل أنواع الشخصيات المأخوذة من الحياة لتلهم الجماهير، ليدفعوا التاريخ إلى أمام. فهناك على سبيل المثال كثير من الناس يعانون التجويع والاضطهاد بينما يوجد في نفس الوقت أناس يستغلون ويضطهدون إخوانهم، وهذه الحال عامة منتشرة إلى حد أن الناس بدأوا يعتبرونها شيئا مسلّماً به، غير أن وظيفة الأدب والفن هي أن يبلور هذه الظواهر اليومية في شكل منظم متناسق. ومثل هذا الأدب والفن يستطيع أن يدفع الناس إلى الحركة وأن يوقظهم وأن يرغمهم على الاتحاد ليقوموا بصراع منظم تأخذ الجماهير خلاله مصيرها في أيديها هي. ولو أن الأدب والفن ظلا موجودين في الطبيعة ولكن في شكل غير خالق، لعجز الأدب والفن عن أداء هذه الوظيفة، ولعجزنا عن الوصول إلى غايتنا بشكل فعال وبسرعة، هذا إذا استطعنا الوصول إليها على الإطلاق.

والأدب والفن للأغراض التعليمية، وكذلك الأدب والفن لرفع المستوى كلاهما خالق” ().

ويرى أفلاطون أن الفن الذي يرمي إلى خدمة الشباب، وتربية الأخلاق هو الفن الهادف إلى خدمة المجتمع والفرد، وهو الفن الأبقى، والأصلح الذي يقوم عقول الشباب، وينمي مواهبهم، وسماتهم الخلقية، ويجنبهم الانفعال، والشهوة، ويقتل ميول الشر الهاجعة في نفوسهم، ويسكن نزوات نفوسهم().

ويقول الأستاذ محمد قطب: “إن الفن الصادق لا بد أن يؤدي وظيفة تربوية، وَعَى الفنان ذلك وقصده، أم كان ذلك متضمناً في عمله بغير وعي منه، وسواءً كان التوجيه التربوي المتضمن سامياً مرتفعاً أم هابطاً متنكساً، فهو في الحالين موجود…إنما يمتاز الفن الاسلامي عن غيره بأن الوظيفة التربوية فيه موجهة إلى القيم الفاضلة والتصورات الصحيحة، لا إلى قيم هابطة ولا تصورات منحرفة” ().

ويقول علي أحمد باكثير الأديب والكاتب المسرحي الإسلامي الكبير مناقشاً هذه القضية، ومرجحاً أن الفن يكون لحمل قضية وفكرة نبيلة سامية، ولخدمة المجتمع والمبادئ السامية: “ويكفي لإثبات ذلك أن كثيراً من الأعمال الفنية المعدودة قد كتبها أصحابها ليبشروا بفكرة خاصة استحوذت على قلوبهم واضطربت بها نفوسهم فنفسوا عنها بتلك الأعمال المسرحية الجيدة، هذا برناردشو معظم مسرحياته من هذا القبيل، وقد اعترف غير مرة بأنه إنما اتجه إلى المسرح لثقته بأن المسرح أداة فعالة ومنبر ممتاز للتعبير عن آرائه والتبشير بها ومثله في ذلك هنريك ابسن، وجون جالزورثي، وجان بول سارتر، فهؤلاء وكثير غيرهم قد كتبوا مسرحيات ناجحة كانت كلها مستوحاة من حماستهم المتوقدة للإصلاح الاجتماعي والسياسي سواءً كان قومياً أو عالمياً، ولم يعبها أو يقلل من قيمتها أنها كانت مسرحيات هادفة أو قائمة على دعوة من الدعوات.

ولكن ينبغي لمثل هذا الكاتب المسرحي ألا ينسى وهو يلتهب حماسة للدعوة التي يدعو إليها أن المسرحية عمل فني قبل كل شيء فيجب ألا يجور على فنيتها بحال من الأحوال. بل ينبغي أن يحرص الحرص كله على سلامة عمله من الوجهة الفنية” ().

فهذه النقول السابقة عن فلاسفة غربيين، وأتباع مذاهب وفلسفات أرضية، وما سطره مفكرون مسلمون لهم علاقة بالفن، توضح بجلاء أن الفن له رسالة وهدف، وله ارتباط أخلاقي، والمسلم بوجه عام يعيش في الحياة وله هدف يبتغيه من وراء كل عمل يعمله، سواء كان العمل دنيوياً أو دينياً.

فإذا كانت الغاية والمقصد الكبير في الإسلام من العبادة كما أسلفنا هي الأخلاق ومكارمها، والمقصد من خلق الإنسان كما يوضحه القرآن الكريم: ﴿مَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ والخلافة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ والعمارة: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ أي طلب إليكم عمارتها.

كما أن لكل مسلم رسالة، ومقصد وراء كل عمل يعمله، فلا يعمل العمل هكذا عشوائياً، بل له من ورائه هدف وحكمة وقصد.

حتى الترفيه له فيه نية وهدف ومقصد نبيل، فقد قال تعالى عن المشي: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ لقمان: 19. سواء كان المقصود هنا بالقصد: المشي السوي، أو القصد أن يكون من وراء مشيه وسعيه مقصد وهدف.

حتى الجماع قال عنه صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة، فقال أحدهم: أيقضي أحدنا شهوته، ويؤجر؟ قال: أرأيت إن وضعها في حرام أكان عليه من الوزر؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: فكذلك إن وضعها في حلال له بذلك أجر».

وسر سؤال هذا الصحابي، وتعجبه: أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر؟! أنه نظر إلى استمتاع الإنسان من حيث نظرة الناس إليها دينياً وشعبياً، أنها قضية حياتية شهوانية دونية، ولم ينظر إليها أن الإسلام يجعل كل أفعال الإنسان إذا كانت وفق ضوابط شرعه، وبنية صحيحة، أنها طاعة ومثوبة يؤجر عليها.

والطعام والشراب، له في نية ومقصد، فقد فصَّل فقهاء الإسلام حالات وأحكام الشراب والطعام، فإن كان بهدف التقوى على طاعة الله فهو عبادة وأجر، وإن كان بنية الحفاظ على الجسد فهو مباح، وإن كان للاستعانة به على محرم، فهو محرم، وهكذا إلى آخر تفصيلات الفقهاء التي يذكرونها في باب الحظر والإباحة كما في الفقه الحنفي مثلاً.

فالمقصد والهدف، أمر لا ينفك بوجه عام عن تصرفات المسلم، والذي منه حالة (الفنان والمبدع)، فهو يعمل وفق هدف، ومقصد، وفي إطار أخلاقي.

 

نهى مرسي

نائب رئيس تحرير الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى