ياسر عرفات.. ميلاد ثائر لا يموت: حين وُلد القائد فبدأ تاريخ جديد لفلسطين

كتبت / مايسة عبد الحميد
في الرابع من أغسطس من كل عام، لا تمر ذكرى ميلاد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات مرور الكرام، لأنه لم يكن مجرد قائد، بل كان رمزًا حيًا لحلم اسمه فلسطين، رجلًا حمل في قلبه بندقية الثورة وغصن الزيتون، وظل يجوب العالم دفاعًا عن شعبه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
وُلد “محمد ياسر عبد الرؤوف القدوة الحسيني” — الذي عُرف بـ”أبو عمار” — في مدينة القدس عام 1929، بين سبعة أشقاء وشقيقات. لم تكن طفولته اعتيادية، فقد فقد والدته وهو في الخامسة من عمره، لينتقل بعدها إلى القاهرة حيث بدأ أولى خطواته في التعليم، وسرعان ما انجذب نحو السياسة والعمل الوطني.
منذ نعومة أظافره، لم يكن عرفات كأقرانه؛ فقد عاش الحلم الفلسطيني مبكرًا، وانخرط في دعم الثوار وتهريب السلاح إلى فلسطين في أربعينيات القرن الماضي، ثم قاتل في حرب 1948 ضد العصابات الصهيونية. لم يكتفِ بالعمل الميداني، بل جمع بين الفكر والسلاح، فدرس الهندسة في جامعة فؤاد الأول، وأنشأ “رابطة الطلاب الفلسطينيين”، ثم “رابطة الخريجين الفلسطينيين”، التي لفتت أنظار الإعلام العربي إليه.
في عام 1956، انضم عرفات إلى صفوف الجيش المصري لمواجهة العدوان الثلاثي على مصر، لكنه لم يتخلَ عن قضيته الأم، وسرعان ما قاده الشغف الوطني إلى تأسيس خلية نضالية سرية، تطورت لاحقًا إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” في الكويت.

أصدر مجلة “فلسطيننا – نداء الحياة”، وسعى إلى منح حركته الاعتراف العربي والشرعية النضالية، حتى افتتحت “فتح” أول مكاتبها الرسمية عام 1963، ثم شارك في المؤتمر التأسيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس عام 1964.
في 31 ديسمبر 1964، انطلقت أولى عمليات الكفاح المسلح بـ”عملية نفق عيلبون”، التي شكلت الشرارة الأولى للثورة الفلسطينية المسلحة، وبعد نكسة 1967، تسلل عرفات إلى الأرض المحتلة بنفسه للإشراف على العمليات النضالية.
قاد معركة الكرامة عام 1968 ضد جيش الاحتلال، تلك المعركة التي قلبت موازين العجز إلى أمل، ورفعت اسم الثورة الفلسطينية عاليًا. بعدها بأسابيع، عينته “فتح” ناطقًا رسميًا باسمها، ثم قائدًا عامًا لقواتها.
وفي 1969، انتُخب رئيسًا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وشهدت مشاركته في القمم العربية والدولية تكريسًا لمكانة فلسطين كقضية مركزية، حتى نالت المنظمة اعترافًا رسميًا كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.
رغم محاولات الاغتيال المتكررة، بدءًا من قصف “الفاكهاني” في بيروت عام 1981، إلى قصف حمام الشط في تونس عام 1985، لم يتراجع عرفات، بل واصل النضال من المنافي، وخاطب العالم في الأمم المتحدة عام 1974 بجملته التاريخية:
“جئتكم بغصن الزيتون في يد، وببندقية الثائر في اليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.”

في عام 1988، أعلن من الجزائر استقلال دولة فلسطين، وعاصمتها القدس. ثم انتُخب رئيسًا لدولة فلسطين في العام التالي، وواصل الكفاح السياسي والدبلوماسي حتى عودته إلى أرض الوطن عام 1994 بعد توقيع اتفاق أوسلو، حيث استُقبل استقبال الأبطال في غزة وأريحا.
وفي أول انتخابات رئاسية عام 1996، نال عرفات دعمًا ساحقًا بنسبة 88%، وبدأ مشروع بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية رغم كل التحديات والعراقيل.
لكن الاحتلال لم يتركه وشأنه. منذ عام 2001، فرضت إسرائيل عليه حصارًا خانقًا في مقر المقاطعة برام الله، وظل محاصرًا حتى وفاته، حيث نُقل إلى فرنسا في أواخر أكتوبر 2004 بعد تدهور حالته الصحية، وسط شبهات بتعرضه للتسمم، ليرحل في 11 نوفمبر من العام نفسه.
لا يُذكر ياسر عرفات بوصفه سياسيًا فقط، بل كتجسيد حي لأحلام الفلسطينيين وآلامهم، صوتًا لم ينكسر، وإرادة لم تنحنِ، ورمزًا لمرحلة شكلت تاريخ أمة لا تزال تناضل.
في كل عام، يولد ياسر عرفات من جديد في ذاكرة الشعوب، لأن القادة الكبار لا يموتون.. بل يتحولون إلى ذاكرة لا تُنسى.






