( باسبور اسكندرانى ) .. بقلم: عمرو نوار
اذا كنت من ابناء الجيل الذهبى فسيعيد اليك هذا المقال شجونا وشئونا لم تغادر ذاكرتك ابدا ولايحق لها ان تفعل ..واذا كنت من ابناء الجيل الحالى فحرّى بك ان تقرأه ليبقى ذلك الوطن الصغير حاضرا فى ذاكرة الغد وكل غد عبر كل الاجيال….اعلم ان كل مواطن مصرى يقبع بداخله “اسكندرانى ” بالهوى والتاريخ وذكريات العمر الاخضر والطفوله ..من اسوان الى وجه قبلى الى وجه بحرى الى سيناء وكل ارجاء المحروسه …فاذا جاء الصيف اصبحت تلك “العاصمه السياحيه ” قاهرة الزمن “الاسكندريه “قبلة المصريين والعرب والعالم اجمع …دعنا نرجع بالتاريخ الى ماقبل ٢٣٠٠ عام تقريبا…ها هو الاسكندر الاكبر يسير على قدميه الى جوار تلك الاكواخ الصغيره ومساكن الصيادين باحثا عن موقع لمدينته والتى ستتحول بعد ١٠٠ عام من انشائها الى اكبر واهم مدن البحر المتوسط على مستوى العالم ..توقف الاسكندر قليلا ثم نظر الى رفيقه واشار بيده بكلمه واحده ( هنا ) وكان هذا الرفيق هو المهندس “دينوقراطيس ) الذى سيصمم مدينة ” الاسكندريه ” فى نفس موقع تلك الاكواخ ذلك الموقع الذى كان يسمى “راقوده” ابوقير ….كانت “الاسكندريه “مدينه ” يونانيه ” بامتياز ..حتى تحولت الى “عاصمة البطالمه “تلك المدينه التى قال عنها “هرقل ” امبراطور الروم” اثناء الفتح الاسلامى “ان الاسكندريه هى درة تاج الامبراطوريه الرومانيه فان سقطت فقد سقطت الامبراطوريه كلها ” وهذا ماحدث لتصبح ” الاسكندريه ” مدينه عربيه بعد انهيار الامبراطوريه الرومانيه ..وتروى لنا كتب التاريخ ان ” عمرو بن العاص” قد زارها قبل “الفتح”الذى تم عام ٢١ هجريه اثر خدمه قدمها “عمرو ” فى الشام “مدينة غزه”الى راهب مصرى حيث دعاه ذلك الراهب الى زيارة مصر فزار عمرو ” الاسكندريه “عام ٤ هجريه وهاله ماراى من عظمتها وهندستها حتى ان نساء الاسكندريه كن يسرحن شعورهن فى ارضها الرخاميه “التى كانت تبدوا كالمرآه فى طلاوتها وكانت اعمدتها من الذهب الخالص ..هكذا كانت الاسكندريه وهكذا بقيت عبر ٢٣٠٠ عام ايقونه مدن المتوسط ودرة تاجها …مدينه لها طعم ورائحة فطعمها طعم مصر ورائحتها رائحة نسائم ذلك البحر الازرق الممتد عبر الجغرافيا والتاريخ …كنا نحن -اهل القاهره- نحلم بتلك الزياره طوال العام …واليك حفنه من ذكريات ذلك الجيل الذهبى …
فى اواخر شهر يوليو كان الحر الشديد والشمس الحارقه فوق رؤوس اهل القاهره تلهب نهارهم صباحا وتقض مضاجعهم ليلاً …ولم تكن ” المكيفات” – آنذاك – قد عرفت طريقها الى بيوت اغلب المصريين وانما كانت تلك ” المروحه” المسكينه تدور فتصارع الهواء يمينا ويسارا وتنطحه نطحا فلا حرّا منعت ولابردا جلبت …فى تلك الاثناء يفر اهل القاهره جميعهم فى اتجاه واحد الى محطة السكه الحديد وحين يصل القطار الى محطته الاخيره ..”محطة مصر” والتى ليست فى مصر وانما فى ” الاسكندريه ” تراهم انتشروا كالجراد المبثوث ويصبح ميدان محطة مصر كالعهن المنفوش من تقاذف الشنط والصراخ على الاطفال .. يضيق الحر اخلاقهم وتلهب حرارة الشمس والعرق وجوههم ..فى هذه الللحظه يكون ذلك ” التاكسى البرتقالى التاريخى ” قد اتى ليحملنا الى ” ارض الاحلام” …لايتغير شئ تقريبا حتى يبدوا ذلك الشريط الازرق من بعيد فى ذلك الشارع الذى يعرفه كل القادمين الى ” الاسكندريه” من القاهره ولم اعرف اسم هذا الشارع ابدا وانما لونه …يسير بنا التاكسى والبحر على يسارنا والمتعه امامنا متخطيا ميامى وسيدى بشر والعصافره متوقفا فى محطته الاخيره عند تلك ” الجنه الصغيره ” المسماه ” المندره ” …كانت وزارة الثقافه المصريه فى اوائل السبعينات قد اتخذت لها “معسكرا صيفيا ” على شاطئ المندره …مقابل البحر وهذا المشهد للاسف قد اختفى الان ولم يوثقه الا فيلم واحد هو فيلم ( الحياه حلوه ) بطولة ناديه لطفى وحسن يوسف واحسن اهل الفيلم صنعا اذ وثقوا هذا المشهد فى تلك الفيلا الانيقه التى كانت تشبه السفينه بقمراتها والتى بناها احد قباطنة البحر اليونايين وكانت ملاصقه تماما لمعسكر وزارة الثقافه الصيفى ومن المؤسف ان هذه التحفه المعماريه قد تم هدمها فى احد عصور الظلام التى دمرت كثيرا من ذكريات ومعالم الاسكندريه …لكن تبقى تلك الاماكن فى الجزء الذهبى من خزينة الذكريات …الساعه الان السابعه والنصف صباحا ونسمة هواء البحر على شاطئ المندره ترغم الجميع على الاستيقاظ للاستمتاع بالبحر والرمل واللعب …قرطاس الزلابيا المرشوش بالسكر ” السانترافيش ” سكر البودره يمكنك ان تحضره من مسافه قريبه ف الصباح الباكر ..الشمسيه والمقعد وانت تعبر الشارع فى تلك المسافه القصيره بين المعسكر والبحر …هبّة ذلك النسيم المفاجئ واستنشاق رائحة بحر الاسكندريه تلك اللحظه التى تقبع فى ذاكرة كل مصرى وكل مصريه ..قرطاس ” ام الخلول “من الباعه المنتشرين عند ” سينما المنتزه ” بشارع خالد القريب بسيدى بشر وميامى عند بئر مسعود …كل هذه الايقونات قابعه فى ذاكرتنا و فى اغلى ركن فيها …التمشيه على الكورنيش وباعة التسالى كل عدة امتار ..الفريسكا التى لن تراها الا ف الاسكندريه …باعة “الرتسا ” بلباسهم البحرى المميز ..كل شئ كان دافئا وطازجا ومختلفا فى تلك المدينه الساحره ….حيث يمكنك ان تسير متخلصا من كل ملابسك عدا لباس البحر فلاينتقدك احد ولايستنكر لباسك احد مما لو حدث فى مدينه اخرى لاتهمت بالجنون ..ولكنك ف الاسكندريه ..حيث الانطلاق والمرح والحياه والحريه …كانت كل لحظه سعاده وكل نسمة هواء حياه وكل قفزه فى ماء البحر شهادة ميلاد جديده ….لاتخلو ذاكرة مصرى او مصريه من اى من هذه الذكريات كلها او بعضها بشكل مطابق او مختلف قليلا فى الزمان والمكان ولكنها جميعا كانت تعد اجمل لحظات العمر وذكرياته الباقيه …والان حين اشاهد ذلك العمران الممتد ف شوارع الاسكندريه وبنيتها التحتيه جهداً وعملاً وداباً اشعر أن ارادة التطوير والتحديث هى مفتاح عظمتها واحتفاظها الابدى بلقب “عروس البحر المتوسط ” جهد لايخفى على زائرها وساكنها من فريق عمل يقوده رجل دؤوب هو محافظ الاسكندريه الهمام الذى لايُرى الا متفقدا لمشروعاتها ميدانيا وحاثّا قياداتها فى كل موقع على رفع معدل الانجاز باليوم والساعه لكل مشروعاتها الطموحه والعملاقه ليس لابناء المدينه فقط ولكن لكل مصرى ومصريه حيث اؤمن ان كل مواطن مصرى يحمل فى قلبه ” باسبور محبه ” اسكندرانى ولسان حاله يردد ..اسكندريه ..” ايامنا الحلوه “