قصص وروايات

خزنة بهاء

خزنة بهاء

خزنة بهاء
أرشيفية

كتب / شريف محمد 

كل ما في الغرفة الباهتة الجدران زاهٍ ، رغم الحزن الذي يُغطي كل ما هو حي حتى الهررة التي عشقها ” بهاء” ، تلمست ” نور ” ابنة بهاء الكُبرى الخِزانة الخشبية ، الأريكة حيث كان معتاداً والدها الاسترخاء ، وهو سابحٌ في ملكوت الله ، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وتتحسس بأنفها رائحته
تجاوزت الأشعة المائلة لشمس عصر ذلك اليوم المشمس من فبراير – على غير العادة- غُلالات الستائر المنسدلة على النافذة ، لتضيء بنورٍ أبيض ملائكي تلك العبارة لاسم ( محمدٍ صلى الله عليه وسلّم ) ؛ عيني “نور” تترقق بالدموع وهي تطوف بكل ما كان (لبهاء) الأب في الغرفة ، إلى أن تلتقي عينيها بعينيه في تلك الصورة الملصقة إلى أسفل الإطار الخشبي للوحة زيتية قديمة لكوخٍ صغير وسط البراري، كما كان يحلم ؛ مدت ” نور” كبرى بنات ” بهاء” أناملها الرقيقة لتمسك بصورة والدها الأسمر المنحوت الوجنتين ، المتطاير الشعر في الصورة بفعل هواء البحر خلفه وهو يحملها ، بكل الحنو والابتسام والأمل ، دون انتباه ارتسمت ابتسامة الذكرى والشوق والحب للأب على شفتي ” نور” الذابلتين من طول البكاء .

السباحة في وجه أبيها ( الحليمي ) الملامح ، كأنه الأخ الشقيق للعندليب الأسمر استغرقتها حتى قطع عليها لحظاتها طرقات أحدهم على الباب، دخلت الزوجة ،” أم نور” ، أو( أم النور) كما كان يداعبها ” بهاء” ، عينا أم نور الخضراوان ، غائصتان في حمرة البكاء ، بادرت الأم ” نور”:
” هل اتصل خطيبك ؟ هل سيأتي ليركب معنا أم نتحرك وأخوتك للعزاء بسيارة أجرة؟
أجابت ” نور” :
ولماذا لا يقود سيارة أبي أخي ” أحمد”؟!
أجابت الأم :
” أخوكِ في حالة سيئة وأخشى عليه من الطريق حتى دار المناسبات “

قطع حديثهما دخول ذلك الشاب الأسمر الطويل ، المنسدل الشعر ” أحمد ” الذي يحمل من ” بهاء” الملامح وبعض الروح ، ألقى إليهما التحية بصوتٍ يكتم البكاء ثم قال وهو يُخرج مِفتاحاً نُحاسياً كبيراً مزخرفاً :
” هذا المِفتاح سقط من جيب بنطال أبي لحظة دخوله العناية الفائقة ، وهم ينزعون عنه ملابسه ، دسسته في جيبي ونسيت أن أخبركِ يا أمي”

تقدمت الأم السوداء الأردية ، الأسود غِطاء رأسها ، إلاّ عن وجهٍ مستدير خنق الحزن بل الهم أجمل ما فيه؛ بدهشة تجاه الابن المقتول بكاءً نظرت، وتناولت بأناملها المتعبة المفتاح النحاسي الذي اعترضته أشعة الشمس في الغرفة ليلمع كما الذهب.

قطعت ” نور” الصمت لتلتقط من أمها المفتاح في عُجالة وكأنها تبحث عن ضالتها ، مسرعةً تجاه خِزانة الملابس الكبيرة المُعتّقة من رائحة مسك المتصوفة العَبِق التاريخ؛

فتحت مِصرَعي الباب الكبير لخِزانة ملابس والدها ، تتقصى بناظريها داخل الخِزانة العميقة لعلها تجد الثقب المحتمل لهذا المفتاح الغريب ، ثم عادت تتأمل موضع المِفتاح في باب الخِزانة الخشبية ، لكنه لم يتطابق مع المِفتاح في يدها ، فأخذت تجول بناظريها في أرجاء الغُرفة علّها تجد موضع ذلك المِفتاح، وفجأة تفتق ذهنها البحث في عمق الأريكة القديمة ( الكنبة الاستانبولي) في مُقابل السرير الضخم بالغرفة.
وبالفعل داخل الأريكة استقرت خِزانة صغيرة من الخشب المُطعَم بالصدف والعاج .

أسرع ” أحمد” ليُعين ” نور” في إخراج الخَزينة الخشبية من عمق الأريكة القديمة ؛ بينما جلست الأم على الكرسي الخشبي المُقابل للأريكة ، وكلها دهشة ، فهي لا تنتظر في الصندوق مالاً ، فقد كان ” البهاء” أبعد ما يكون عن حب المال وجمعهِ ، بل إنّ الأبناء جميعاً حتى الصَغِيرَين اللذين حضرا للتعجيل بالنزول للذهاب لعزاء والدهما ، وقفا متحيرين ، تنفجر من عيونهما الدهشة . أعادت ” نور ” سطح الأريكة كما كان ، وضع ” أحمد ” الخَزينة فوق الأريكة ، أعملت ” نور ” المفتاح فانغرس في داخل الثُقب ولا صوت يعلو فوق صوت المِزلاج الداخلي ، دورة فالأخرى حتى توَّقف المِفتاح عن الدوران وكأنه يُعلن كلمة النهاية ، حاولت ” نور” سحب باب الخَزينة للخارج ، فتحرّك متزحزحاً ليتسرب الضوء لظلام الخَزينة ، في حالة ترقُّب من الفتيين ،

بينما ” أحمد” رغم الحزن والبُكاء إلا أنه جامد الملامح ، رافضاً التعلّق بغير الواقع، كوالدته التي توجّهت بالنظر إلى سجادة الغرفة الصوفية التُرابية اللون ، بينما لهفة الفتيين تُغالب حزن الفِراق منتظرين من الأب ما يحتاجونه ولا يملكه من ثراء ، ما يسبب السعادة بعد الرحيل ، ثوانٍ وأتمت ” نور” فتح باب الخَزينة لتكشف عن صور بين اللونين الأبيض والأسود تحمل ضحكاتٍ ونظراتٍ للوالد الراحل في هدوء ، عدد من العملات الورقية الليبية القديمة حيث قضى أجمل سنواتٍ من عمره ، وصورٍ أحدث بل حديثة له وهو في رحلاته مع تلاميذه النوابغ ، وخلف كل صورة كتب ” بهاء” بخطه الرقعة الجميل ، مكان وتاريخ الرحلة ، وأسماء من بها من تلامذة ، ومجموعة أخرى ” للبهاء” في ميدان التحرير مع الشباب هناك حيث قضى أجمل لحظاته وهو يُلقي في الصباح بالآراء والتوقعات ، لتجيء حوادث الليالي بصدق ما قال ، حتى صار من كبار المتحدثين وسط الجموع خاصة الشباب؛ تحلّق الأبناء حول الخَزينة الفارغة من الأموال ، و المُمتلِئة بعمرٍ طويلٍ من الذكريات ،
انسلّ ” أحمد” من الجمع ، تبعته والدته وهي تفتح حقيبتها السوذاء الجلدية لتدفع لابنها” أحمد” بحزمة رقيقة من النقود وهي تقول بصرامة ، وقد تحجرت الدموع بعينيها :

” هذا كل ما تبقى معنا من نقود ، أحفظها في جيبك ، وانتبه ألاّ تسقط ، وألا تُنفق فيما لا ينفع دون الرجوع إليَّ ” ؛
ألقت زوجة الأستاذ ” بهاء ” بنظرة إلى ” نور” الغارقة في ثراء ذكريات الأب ، والتي صارت تلتقط أشياء والدها وتقبلها ، وهي تبللها بدموعها المترنحة من فوق وجنتيها المتوردتين ، لم تترك صورةً أو ورقةً من خطاباتهم له في ليبيا ، وقد احتفظ بها ” بهاء” طوال سنين إلاّ وأمعنت النظر فيها وهي تبكي بحرارة ، أطالت الأم النظرة ” لنور” بين الإشفاق والحزن ، الرغبة واليأس ، الأمل بأن يعوضها الله وأخوتها بصالح عمل ابيها خيراً ، واليأس في أن يترك ذلك ” البهاء” ثروة غير دعوات تلاميذه، و ذكريات الميادين التي كان ” بهاء” بهاءَها وفارسَها.

مايسة عبد الحميد

نائب رئيس مجلس إدارة الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى