مقالات

أنا واللي أحبه نشبهك في صفاك .. بقلم: الكاتب والروائي والمؤرخ د. طارق منصـور

أنا واللي أحبه نشبهك في صفاك .. بقلم: الكاتب والروائي والمؤرخ د. طارق منصـور

أنا واللي أحبه نشبهك في صفاك .. بقلم: الكاتب والروائي والمؤرخ د. / طارق منصـور
طارق منصور

 

نجح نهر النيل أن يشكل وجدان المصريين ويحصنهم على مر الأزمان، حتى نسج الشعراء على ضفتيه أعذب الأبيات، وتغنى المطربون على أرضه بأجمل الألحان، وعزفت الموسيقى له أرق النغمات. وأستطيع أن أزعم أن النيل صب فينا الحب صبا، فقد عرفنا على شطآنه معنى الهوى، ودقت قلوبنا وتغنت على سطحه بحروف العشق وآهات الجوى؛ فلم نرتو بمائه فحسب، بل فاض القطر من بين جوانحنا لينشر الحب والسلام بين الأنام حين مد ذراعيه قائلاً: هلم إلى أحضاني أسرعوا، وبثيابي الرقراقة تدثروا، وبدفئي الحاني تكاثروا، فأنا مباه بكم فأبشروا.

أنا واللي أحبه نشبهك في صفاك .. بقلم: الكاتب والروائي والمؤرخ د. / طارق منصـور
نهر النيل

لقد كانت صور العشق على ضفاف النيل تأسرني حين كنت أتريض في شبابي على كوبري بولاق أبو العلا -قبل تفكيكه- وكثيرًا ما كنت أقف على حافة الجسر أطالع أمواج النيل وهي تتسابق وتحتض كل منها الأخرى، دونما إذن أو سؤال، فرحة بالإندماج في كيان واحد يدفعها نحو الأمام. كنت أتابع صور العشق على شطآنه الملتهبة من نار الجوى، فتأتي نسمات الليل تعبث بشعور الحالمات، وتحرك أفئدة القاصرات، وتنثر عطر الشوق بين أنامل الفتيان والفتيات.
آه يا نيل “أنا واللى أحبه نشبهك في صفاك، لانت ورقت قلوبنا لما رق هواك، وصفْونا في المحبة هو هو صفاك، ما لناش لا احنا ولا أنت في الحلاوة مثيل يا نيل.”
أي سحر هذا الذي يمارسه النيل على أبنائه ورواده حتى تتعلق به أفئدتهم! لقد تمنيت أن أعيش إحدى القصص التي حكت عنها السيدة فيروز، حين قالت: “مصر عادت شمسك الذهب، تحمـــــل الأرض وتغـــترب، كتـــب النيل عــــلى شطه، قصصًا بالحب تلتهب”.
وبالنيل هام شعراء العرب القدامى وجادت قرائحهم بأجمل الكلمات حين قال الصفدي:
لِــــمَ لا أهيــــم بمــصــــر…وأرتضيها وأعشــق
وما ترى العين أحلى…من مائها إن تدفق
وحين قال ابن الوردي:
ديار مصر هي الدنيا وساكنها…هم الأنـــام فقــابلــــها بتقـــبيل
يا مـــن يباهـي ببـــغداد ودجلتـــها…مصر مقدمة والشرح للنيل
أما الشريف العقيلي فقد قال:
أحن إلى الفســـطاط شـــوقًا وإننـــي…لأدعو لها أن لا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لحياتها….وفي كـل قطر مــن جوانبــها نهر
تبــــدت عــــروسًا والمقــــطـم تاجـــهـــا….ومن نيلـــها عقد كما انتظــم الـدر
أما الشعراء المصريين فللنيل عندهم مكانة خاصة لا تدانيها أية مكانة عند الآخرين. فها هو أمير الشعراء أحمد شوقي يقول: “النيل نجاشى، حليوه أسمر، عجب للونه دهب ومرمر، أرغوله فى ايده، يسبح لسيده، حياة بلدنا، يا رب ديمُه.”
أما على محمود طه فقد حمل النيل بين ضلوعه حين سافر إلى إيطاليا عام 1938م وصدم بحضارتها وبجمال فينيسيا وخلد ذلك كله في رائعته الجندول، مقارنًا بين مراكبنا النيلية برقتها وجمالها وهي تهدهد العشاق على سطحه، حاملة كليوباترا، وما رآه في جنادل البندقية، حين قال:
قلت والنشوة تسري في لساني
هاجت الذكرى فأين الهرمان؟
أين وادي السحر صداح المغاني؟
أين ماء النيل؟ أين الضفتان؟
آه لو كنت معي نختال عبره
بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره
حلم ليل من ليالي كليوباتره
وقد أمتعنا الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، بواحدة من أجمل القصائد على الإطلاق، والمسماة “النهر الخالد”، حيث رسم لنا صورة متكاملة الملامح عن نهر النيل وسحره الطاغي الذي يمارسه على المصريين كافة، وفرحة العذارى على شطآنه من نشوة الحب، ويؤكد على أن الناس في حب النيل سكارى، هاموا على أفقه الرحيب حين يقول:
مسافر زاده الخيال
والسحر والعطر والظلال
ظمآن والكأس في يديه
والحب والفن والجمال
شابت على أرضه الليالي
وضيعت عمرها الجبال
ولم يزل ينشد الديارا
ويسأل الليل والنهارا
والناس في حبه سكارى
هاموا على أفقه الرحيب
آهٍ على سرك الرهيب
وموجك التائه الغريب
يا نيل يا ساحر الغيوب
إنه النيل، هو من فعل بنا هذا، فهو الحبل السري الذي يربط العشاق ببعضهم البعض، ويجعلنا نعيش حالة فريدة في العمر، ربما لن ندركها بعد يومنا هذا؛ فلم ننقطع يومًا-من باب الوفاء-عن الاحتفاء به، صيفًا وشتاءً، حارًا كان الطقس أم باردًا، بالشعر والأناشيد، والموسيقى والزغاريد؛ ومع الصحب الكرام نردد أحلى الكلام “أنا واللى أحبه نشبهك في صفاك”.

مايسة عبد الحميد

نائب رئيس مجلس إدارة الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى