الحوض المسحور من البغاء.. إلى الشفاء
كتب/ د.مصطفى سيف النصر
جنبا الى حجر رشيد الشهير يعرض بالمتحف البريطانى حوض فرعونى من الجرانيت الأسود مغطى بالكتابات والرموز الهيروغليفية يعود تاريخه إلى حوالى ٦٠٠ عام قبل الميلاد..
ويعتقد أنه فى الأصل كان تابوتا لأحد النبلاء المصريين ويدعى هوبمان.. وكان يعتقد أيضا أن الإستحمام بطريقة ما فى هذا التابوت الذى سمى بالحوض..فإن سحره ينشط ليعالج من الأمراض ولاسيما من لوعة الحب والفراق وآثارهما..
وكان من الشائع أيضا ان الفهم والمعرفة والقدرة السحرية التى يمتلكها هذا التابوت والايمان أو الاعتقاد ذاته..يلعب الدور المحورى فى فهمنا و إدراكنا لكل شئ فى الحياة وقوى الطبيعة.
وقد ذكر الفرنسيون فى كتابهم وصف مصر أنه تابوت فرعونى وضعه أخذ بكوات المماليك أمام جامع الجاويلى يحيى السيدة زينب بالقاهرة.. وكان الأهالي يستخدمونه فى سقاية المياه،ليشرب منه المارة.
ثم سرت بعد ذلك الشائعات بأن من يرتوى منه يشفى من آلام العشق والفراق-لذا أطلق عليه سكان القاهرة الحوض المسحور.
وقد رسمه الفرنسيون فى كتابهم وصف مصر وبه ثقب بأحد جوانبه لتصريف المياه وأطلقو عليه ينبوع العشق..
وقد ذكر المؤرخ المملوكى (إذن إياس)، أن هذا التابوت كان يستخدم كسفينه تكفى ليستقلها ٤ أفراد بغرض العبور بين ضفتي نهر النيل ولو زاد العدد عن ذلك تعرضت للغرق وهو مالم يعجب حاكم مصر وقتذاك (كافور الإخشيدي). والذى بادر بجمع علماء مصر لفك وقراءة وترجمة رموزه ونقوشه المدونه..وعندما عجزوا عن تنفيذ ذلك ألقوا بالتابوت بجوار مسجد السيدة زينب.
وتعاقبت الأجيال ومعها الروايات التى اجتمعت لتؤكد فى كل مرة صدق الأسطورة وتعمق جذورها داخل الجميع …حتى أن أحد الرحالة ويدعى (أوليا جلبى) قد زار مصر فى القرن السابع الميلادى ليروي تفاصيل تلك الاسطورة بل ويفيد بأن التابوت مملوء بماء زلال براق يستسقى منه الرائح والغادي ليل نهار من الإنسان والحيوان دون أن ينقص من مائه شئ-ولا يفهم من أين يأتى اليها الماء ومنذ ذلك الحين وتعمقت فكرة أن لماء هذا التابوت قدرات سحرية خارقة.
وكعادة المستعمر فى أن يطمع فى كل ما هو قيم ونفيس فقد حاول الفرنسيون نقله لبلادهم غير أن الإنجليز منعوهم طبقا لإتفاقية الإسكندرية عام ١٨٠٢ وليقوم هم بالاستيلاء عليه ولم يتبق منه فى القاهرة غير الإسم والكثير من الأساطير التى دارت حوله..
كان يقع هناك أيضا قصر الملك الناصر محمد بن قلاوون وحمل إسم قصر بقتمر الساقي وقد وصفه شيوخ المؤرخين بأنه أعظم مساكن مصر وأحسنها بنيانا.
تحول بعدها هذا المبنى العريق مصنع للنسيج ثم الى سجن الحوض المرصود ثم الى تكية الى أن انشئت فى عهد محمد على باشا مستشفى قام كلوت بك و جعلها متخصصة فى الأمراض الجلدية والتناسلية.
وكانت مقر لإجراء الفحوصات الطبية على البغايا من النساء للحصول على ترخيص بالعمل، وقد بدأت أول أمرها كعيادة صغيرة .
ويذكر أن هذا المشفى أو العيادة كان يعد مكانا كريها للبغايا العاملات بالجنس التجاري فى عصر التقنين..ذلك أنه المكان المخول له تحديد لياقتها وصلاحيتها لممارسة الرذيلة ومتحكما فى مصيرها المهنى حيث يحق له استخراج رخصتها لممارسة عملها من عدمه..
ومن المثير أن اغنية سلمى يا سلامة ..روحنا وجينا بالسلامة المحفورة بوجدان كل المصريين كأحد أهم الاغانى التراثية التى نتغنى بها فى الكثير من المناسبات والتى ألفها العملاق سيد درويش ..ترتبط كلماتها تاريخيًا بمستشفى الحوض المرصود.
وبالجنس التجارى المقنن وقتذاك فى مصر…فكانت البغايا بعد فحصهن ومنحهن رخصة ممارسة المهنة وثبوت صحتهن وسلامتهن ولياقتهن لممارسة العمل يخرجون على عربة كارو ليبدأ موكب الاحتفال من أمام المستشفى مرددين سلمى يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة ..مرارا وتكرارا حتى الوصول الى حيث تنتظر بقية الزميلات لإقامة حفل بالرخص المجددة مساء.
وكان عليهن الذهاب مرة شهريًا للتأكد من خلوهن من الأمراض التناسلية او المنقولة جنسيا.
كانت لاشك رحلة ثقيلة على نفوسهن أجمل الكثير من الأهانات والعنف وسوء المعاملة ولا سيما دفع الإكراميات ..وكانت كمهنة مقننة لها قواعدها وأعرافها وسدنتها لمنتفعيها يلتف بطبيعة الحال حولها البلطجية التابعين لبيوت الدعارة التى يعملن بها ولايقف دورهن على الحراسة و توفير الحماية للمهنة فحسب، بل والحرص على عدم هروب احد العاملات او خروجها عن اللوائح وربما استعادة من قررت الامتناع او الهروب بخلاف مسؤوليتهم عن تأمين الرحلة من المستشفى إلى البيوت .
ليأتي عام ١٩٤٩ ليقضي بقرار من الحاكم العسكري آنذاك بإلغاء جميع بيوت الدعارة المرخصة بانتهاء تقنين مهنة البغاء أو الجنس التجارى فى مصر .. وينتهي بالتالي تردد العاملات بها للكشف الدوري وتجديد الترخيص.
ثم يأتي عام ١٩٧٩ ليتحول اسمها الى مستشفى القاهرة للأمراض الجلدية والتناسلية
والتحول الى قبلة للمرضى يقصدها المرضى من كل محافظات مصر ..تعالج أصعب وأخطر وأدق الأمراض الجلدية كأول مستشفى نوعية متخصصة فى تشخيص وعلاج الأمراض الجلدية والتناسلية فى مصر والشرق الاوسط بالمجان أو بمقابل رمزي بسيط..لتصبح أحد أهم المدارس الطبية المتخصصة التى ينهل منها شباب الأطباء وافر العلم والخبرة العمليه .