“الفكر المتطرف ” و تراجع المجتمع”.. بقلم: دينا شرف الدين
لا أدري من أين أبدأ ، لكنها دائرة مغلقة متشابكة خطوطها كل منها نتيجة للآخر و ما علينا الآن إلا الخروج الآمن منها لإنقاذ المجتمع و الثقافة و الهوية المصرية التي تلوثت و تغيرت و تبدل الكثير من ملامحها ليتحول المجتمع إلي آخر غيره شكلاً و موضوعاً،
فهناك حالة من التدني و البياءة كما يقولون باللغة الدارجة التي تسللت لتصيب المصريين تدريجياً بفعل فاعل خبيث بالعقود الماضية تحديداً منذ أواخر ستينيات القرن الماضي و حتي يومنا هذا !
و إن تأملنا الصورة جيداً سنري جلياً المتهم الحقيقي الذي يخفي وجهه و يستتر خلف السُتُر المختلفة الأشكال ذات المسميات المتعددة ليدفع بها واحدة تلو الأخري لبث السموم و نفخ الخبائث دون أن نري له وجه !
فمنذ منتصف الخمسينيات و حتي أواخر الستينيات قد فر عدد لا بأس به من أفراد جماعة الإخوان المسلمين من ملاحقة عبد الناصر ممن نجوا من السجون بعد كوارثهم المعتادة التي ارتكبوها بحق الوطن من عمالة و خيانة و اغتيالات منذ بزوغ تنظيمهم علي أرض مصر كجماعة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بصناعة و تمويل انجليزي معلوم .
إذ استقر هؤلاء الفارين غالباً بالأراضي السعودية ووجدوا ضالتهم بالفكر الوهابي المتطرف ، و تضاعفت ثرواتهم و تمكنوا من ترتيب أوراقهم جيداً ليعودوا تدريجياً بعد وفاة عبد الناصر و توجيهات السادات بإتاحة بعض الوجود للإسلاميين و إخراج الكثيرين منهم من السجون رغبة منه بإحداث حالة من التوازن بالمجتمع بين اليمين و اليسار الذي قويت شوكته بهذا التوقيت !
في العام 1970 توفي جمال عبد الناصر وتولى أنور السادات السلطة في مصر وواجه معارضة ممن كان يسميهم «مراكز القوى» فقرر أن يستعين بجماعة الإخوان المسلمين وأن يتصالح معها ليستخدمها في ضرب التيارات اليسارية والقومية التي يستند عليها خصومه داخل مصر،
وفي هذه الآونة و ما قبلها كانت الجماعة قد دفعت ببعض تلامذتها ليشكلوا بعض التنظيمات الإسلامية و التي كان أشهرها تنظيمي ( التكفير و الهجرة و الجهاد ) ثم الجماعة الإسلامية و الشوقيين و القطبيين و غيرها من المسميات و الأوجه المتعددة لعملة واحدة مستترة تخفي نفسها عن الأنظار و تعمل في صمت لتنتج الطحين دون أية ضجيج !
أما عن تأثر المجتمع بعودة العائدين من الأراضي السعودية فقد كان كبيراً متغلغلاً بالثقافة المصرية العريقة و الهوية المصرية الصلبة كالسم بالعسل .
فقد بدأت الخطورة باصطحاب هؤلاء العائدين للكثير من المفردات اللغوية الغريبة علينا ، لتقتحم آذاننا مفردات سعودية لسنا بحاجة إليها ،
إلي جانب اللافتات التي انتشرت بشكل سريع لتعلو واجهات المحال التجارية و الصيدليات و الألبان و غيرها مثل ( الحرمين ، مكة ، إخوان كذا ، أو مذا إخوان ) !
ثم توالت نفثات الشياطين تنتشر بغفلة منا ليتغير الشكل الحضاري الراقي و الخلق الذي تميز به المصريين الغني منهم و الفقير ، الأرستقراطي منهم و الشعبي ، و يتحول إلي شكل آخر غريب علينا بداية من الزي الموحد الأسود كالنقاب و اختفاء الأناقة التي لا تخل بالوقار و الإحترام ليتم شحن البسطاء و غير البسطاء أحياناً بالأفكار المسمومة التي تحرم كل شئ و تهتم بالصغائر و الخزعبلات و ترتكز علي التخويف و الترهيب لتطيح بسماحة و اعتدال ووسطية الإسلام كما اعتاده المصريين.
فأتذكر جيداً عندما كنت طفلة ، كنت أحفظ عن ظهر قلب أغاني إعلانات تنظيم الأسرة التي كانت تذاع مرارًا وتكرارا بالقنوات الرسمية و ما تحققه من توعية مباشرة و غير مباشرة لهذه الأسرة ، تلك التي قد استجابت بالفعل لعملية تحديد النسل و باتت غالبية الأسر المصرية تقرر أن تكتفي بطفلين فقط لتتمكن من رعايتهم مادياً و خلقياً و تعليمياً ، و من كان يخرج عن المألوف كان مجرد استثناء .
ذلك قبل أن تتوقف نهائياً تلك الحملات الإعلانية التوعوية الجميلة و يتغير شكل و فكر المجتمع ليتباهي كل زوج و زوجة بعدد الأولاد و تحريم عملية تحديد النسل كتبعة من تبعات التطرف الفكري الذي أصاب المجتمع في مقتل.
هذا إلي جانب تحريم الفنون التي كان لها الأثر الأكبر و الأهم في تشكيل وعي ووجدان المصريين و الإرتقاء بهم علي مر العصور ،
و إلهائهم بدعاء دخول الحمام و تغيير مظاهرهم و مفرداتهم و تسميم أفكارهم و العبث بهوياتهم التي احتفظوا بها و التي لم يستطع عدو أو مستعمر أياً كانت قوته العبث بها !
و جاءت نهاية السادات علي أيدي هؤلاء الذين حررهم و منحهم الفرصة من جديد باغتياله كعادتهم التي لم يشتروها بل كانت أصيلة لديهم مؤصلة ،
كنتيجة متوقعة لتصرف أثبتت الأيام عدم محالفته الصواب !
ثم توالت و استمرت خططهم الشيطانية و من اتبعهم بالعبث بالشخصية المصرية و إخراجها عن شكلها و مضمونها لتتحول شيئاً فشيئاً من التحضر و الرقي إلي التراجع و التدني الفكري و الثقافي و الفني و الديني لينتهي بها الأمر منذ أقل من عقدين من الزمان إلي الإقتراب من الثقافة البدوية الوهابية المتشددة ، و التي دون شك أصابت المجتمع بالتخلف الفكري و نشرت الجهل و البياءة التي انتهت بنا إلي مجتمع التوكتوك !
و ما زالت زبانيتهم تخطط و تدبر و تزور الحقائق ، و التي كان أحدثها و لن يكون آخرها محاولاتهم الخبيثة لتصدير صورة بالخارج أن هناك ثورة قادمة بمصر و أن المصريين سيخرجون تمرداً علي النظام ، إلي جانب بجاحتهم المعتادة بفبركة فيديوهات قديمة لمظاهرات علي أنها الآن ، ثم سرعان ما عادوا ليختبئوا بجحورهم بعدما ثبت عليهم الكذب كما هو المعتاد،
حفظ الله مصر و شعبها من شر كيدهم و من والاهم و رد كيدهم إلي نحورهم.