قصص وروايات

ثعلبة .. وسط الكلاب

ثعلبة .. وسط الكلاب

ثعلبة .. وسط الكلاب
ثعلبة .. وسط الكلاب

كتب / شريف محمد

على أعتاب باب المدرسة الإعدادية بقَدَمٍ مُتوَرّمة بفعل أمراض القلب ، تلّمست ( المُعلّمة الخبيرة) وسط حشودٍ من الطلاب الممسوخي الملامح وأهالٍ طحنهم الفقر، الدرجة الأولى من الدرجات الخمس للسُلّم المُتصدع كواجهات بيوت المساكن الشعبية المحيطة بالمدرسة الإعدادية في الحي .

إلى يمين باب المدرسة من الداخل يجلس مسئولو لجنة الإعدادية ، إداريتان في خريفهما الرابع ، ورجل خمسيني قصير القامة أسمر نحيل ، أسرع العامل بالمدرسة ليمُد يد العون ( للمُعلّمة الخبيرة) بردائها الأسود المُخملي و خِمارها الأبيض المحيط بوجهٍ ملائكي كالبدر يتصبب عرقاً رغم برودة يناير في ذلك العام ؛ شكرت ( المُعلّمة ) العامل وهي تدفع إليه بورقة نقدية صغيرة ، بينما تُلقي التحية على الجالسين ، وتدس يدها مرة أخرى في حقيبتها الجلدية السوداء الفاخرة لتُخرِج وُرَيقة صغيرة ؛ قالت وهي تتقدم بها إلى الجالسين :

((.. خطاب المُلاحظة الخاص بي ..)) ،
أجاب الرجل الأسمر القصير : ((..أهلاً وسهلاً..)) بابتسامة مُصطنعة ويد ممدودة لألتقاط الوريقة أجاب الرجل مسئول توزيع المُلاحظين…ثم أكمل حديثة بجدية :
((..لجنة ٢٥ ..هنا في الدور الأرضي إلى يَسار غرفة رئيس اللجنة..)) ؛
استدارت ( المُعلّمة) في اتجاه اللجنة كجندي في طريقه لمعركةٍ خَبِرَها وقد ارتسم على وجهها الأبيض الملائكي ونظارتِها الطبية ملامح الصرامة التي تُنبئ عن شخصية تعليمية مُتمرّسة ؛
..رمقت الإداريتين مسئول الملاحظة بجوارهما بنظرة احتقار ، قطعها همس إحداهما له :
(( ..كيف هذا تدفع بامرأة كبيرة مريضة للجنة بها ( فتح الله ثعلبة )..؟؟!!))..
أجاب بصوتٍ هامس كفحيح ثعبان ..
((..مريضة تلزم منزلها للعلاج..إنه عمل..))
بادرته الأخرى :
((..الله أعلم بظروفها ..))
ثبّت عينيه الثعلبيتين وبصوت كالفحيح أكمل قائلاً :
((.. أي ظروفٍ تلك يا أستاذة ، إنها تمسك بحقيبة ثمنها يُعادل مُرتب شهر.. إنها من أنصار هل من مَزيد…)) ؛ أغاث اندفاع الطلاب المندفعين للجنة ( المُعلّمة الخبيرة) من الحقد الظاهر في حديث هذا القصير الثعبان.
..على باب لجنة ( ٢٥) ربضت ( المُعلّمة ) على كرسي جَلبَهُ لها العامل ، وكانت كفيلةً نظراتها للداخلين من السِفلة من الطلاب الغوغائيين لأن تنحشر نُباحَاتُهم داخل الحناجر ، وسط دهشة و خوف من تلك العجوز الرابضة ؛ زادت حالة الصمت داخل اللجنة بسبب أصوات مرتفعة من خارج اللجنة، يخترقها صوت أجش قوي ، لا تستوضح منه غير السُباب واللعن والتَوعُّد لكل من في المدرسة من مسئولي لجنة الإعدادية ؛ اقترب ذلك الصوت أكثر حتى ساد الصمت بين الطلاب في لجنة ٢٥ .
.. تلك (الخبيرة) تقف بشموخ منتصبة القامة متحجِّرة العينين وقد اختلطت أنفاسها بأنفاس ذلك الطالب ( البلطجي) كسرت الصمت بنبرة قوية كأنها زائير أسد:
((..تفضل بالجلوس مكانك..ولا تفتح فمك..))
دهشة وذهول مغلفين بصمت وأنظار متعلقة ( بالبلطجي ) و( المُعلّمة) بددهم صوت ذلك الطالب من عمق اللجنة :
((.. اهدئي يا( حاجة ) .. ده ( ثعلبة )..!!))..
ردت بصوت صخري لوحشٍ لا لامرأة بهذا السن :
((..ما هي إلا أسماءٌ سميتموها.. الكل هنا طالب وأنا ( الأستاذة ) ، ( الحاجة ) هي التي تبيع الخضراوات بجوار المدرسة..))
…ارتجت غرفة الصف من شدة الضحك الذي دفع لفيف من المُعلمين للإسراع إلى باب اللجنة.. وسط تعليق أحد الطلاب :
((…يا ( كزبرة) ..الأستاذة تعرفُ أمكَ .. .. ؟!!)) ، في أقل من ثانية حركت ( المُعلمة ) عينيها للطالب وردت بحزم :
((.. أنا آسفة لم أقصد إهانتك..لكن تَعلّم : أنّ مَن يأتون إلى هنا أساتذة ومعلمون..وطلاب ..))؛
..مُحاولاً التهدئة رفع رئيس اللجنة صوته من الخارج :
((.. أتوجد أي مشكلة يا أستاذة..؟!!))..
..بحِدة وسرعة أجابت ( المُعلِمة ) :
..((.. لا..)) ثمّ أكملت موجّهةً النبرة القوية إلى ذلك ( الثعلبة )- البلطجي- :
((..تفضَّل مكانك..))..
..في تلك اللحظة دخل الملاحظ الثاني إلى لجنة ٢٥ مُعتذراً ( للمُعلّمة ) عن التأخير ، فوخزته بنظرتها قائلة :
((.. إذا سمحتَ مُبكراً قليلاً..))؛ بينما كان ( ثعلبة) بجسده النحيل وملابسه اللامعة ، ومن وجهٍ تطارده الندبات والجروح يتعلّق نظره بتلك العجوز الممتلئة القوية.
..كذئبٍ جريح جلس ( ثعلبة) ، لم يُدرك أين الطعنة؟!! ، ولا مَن الطاعِن؟!!! .
..مَرت الفترة الامتحانية الأولى في ظل تَغافُل من المُعلمة وتظاهُر من الملاحظ الآخر بمحاولة ضبط الطلاب .
… في وسط دهشة الجميع، الطلاب بكل اللجان والملاحظين والمسئولين مرت( الفترة الأولى ) كسفينة مُحمّلة وسط أمواج ما قبل العاصفة.
… لم تُغادر ( المُعلّمة الخبيرة ) لجنة ٢٥ ؛ أخرجت مُغلّف به شطائر منزلية عدده يتجاوز اليد الواحدة بقليل .
.. ( ثعلبة البلطجي ) يرمقها عن بُعد ، لاحظت( المُعلّمة) بطرف عينها اليُسرى خلف نظارتها نظراته.
..ظلت رابضة في مكانها (باب لجنة ٢٥) كملاحظ للفترة الثانية، بحُجّةِ عدم قدرتِها على الحركة .
..الغريب و صول (فتح الله ثعلبة ) إلى لجنته مُبكرا ، دخل دون النطق بكلمة ، وجلس إلى مكانه في وسط اللجنة بمواجهة الباب ، في حالة تجاهل من (المُعلّمة) ، وحالة من المُتابعة باهتمامٍ شديد من المسئول عن توزيع الملاحظين – ذلك الثعبان القصير- يلاحظ ما يدور في لجنة ٢٥ دون الإكتراث من أحد غيره ، و وسط ضجيج دخول الطلاب لبدء الامتحان التالي ؛
..((.. يبدو عليكَ الجوع..تأكل ؟؟!!)). بادرت (المُعلّمة) (فتح الله )..
((.. اهتمي لحالِكِ ( يا (سِت)..)) كان رده بصوت مرتفع أجش ؛
وكأنه هواء مر بجوار أذنها تحركت بثِقل واضعةً أمامهُ شطيرتين ملفوفتين بورقٍ فضي ورائحة شهية تنتشر فور فض الورقة الفضية ، نظرته للشطيرتين نظرة كلبٍ قتله الجوع دفع( المُعلّمة ) لتقول :
((..أسمعُ صوتَ تقطيع الجوع لبطنك..)) ، بنظرة انكسار لم يتوقعها أحد مد ( ثعلبة ) كَفيّهِ القذِرَتين المُلوثتين بالنُدَب كوجهه الآثم ليأكل الطعام الشهي.
…بعد دقائق معدودة…
((..صباح الخير..)) قالها المُلاحظ الثاني (للمُعلّمة الخبيرة ) أجابت بابتسامة: (( صباح النور..)).
… الطالب( فتح الله ثعلبة ) كقط وديع ، لم يلحظ الطلاب حولهُ هدوءَهُ ، فلكلٍ شأنٌ يُلهيه .
..الملاحظ الثاني يتمتم بجوار ( المُعلّمة ):
..(( ..هذا الولد يبدو عليه المرض والهبوط ..))
أسرعت ( الخبيرة ) تُجيب :
(( ..أعطه هذا المشروب الغازي سيُفيقه..)) ناولت ( الخبيرة ) الزجاجة البلاستيكية للمُلاحظ بعد أن فتحتها ؛ نبّه الملاحظ الثاني ( فتح الله ) الذي كان في حالة من الإعياء والعرق ، ما أن اجترع (فتح الله ) جَرعَتين ، حتى تلمّس مِقعده الخشبي بيده اليّسرى وراح في سبات عميق.
….مع آذان العصر ينفتح باب المدرسة المُحاط بجموع أهالي الحي من الخارج ، والمصطفين حول سيارة الشُرطة والإسعاف ، وسط فَزعَات من (الأمناء) الذين يشقون الطريق وسط الحشود للمُسعفين يحملون ( نقّالة) ، وصفٌ من المُعلّمات والمّعلّمين المتمتمين بكلمات :
((.. لا حول ولا قوة إلا بالله..))
((.. رحمهُ الله..))..
(( ..لعنهُ الله…الحمدلله…
أراحنالله من شَرّه..)) .
… تظهر( المُعلمة الخبيرة ) تستند إلى يد العامل في مؤخرة الصف ، تمشي كعادتها بهدوء ، فإذا بشابٍ ثلاثيني ممشوق القوام مفتول العضلات يرتدي من الملابس أغلاها يمد يده ليُصافح ( المُعلمة الخبيرة..) أمام باب المدرسة ، منتزعاً نظارته الشمسية، قائلا :
((.. ألم أقل لحضرتِكِ بإذن الله سينتقم الله لحفيدك الذي غدر به ( ثعلبة ) ، سبحان الله وفي نفس المكان يلقى مصيره؟!!..))
أجابت بصوت خفيض حاد تُغلّفُهُ نبرة شماته :
..((.. الحمدلله..أفضى إلى ما قدّم يا سيادة رئيس المباحث..))..
..أشاحت بوجهها عنه و مضت تحثُ الخُطى كقائدٍ منتصر ، يتبعها رئيس المباحث بنظرة شك ارتسمت على عينيه.
..لم تتمالك عينيها وهي تُلقي بنظرة تشفٍ للملأة البيضاء إلى يمينها التي يرقد تحتها الآن ( ثعلبة) طاعِنُ حفيدها ، فإذا بيد الثعباني الأسمر ( مسئول توزيع الملاحظة باللجنة) تجذبها بقوة من جهة اليسار هامساً :
((.. رئيس المباحث يرمقك يا أبلة( إحسان)..))
التفتت للأمام و تباطأت مُخفيةً نشوة الانتصار ناظرةً للأمام..
واصل القصير المكير همسهُ :
((..لا تقلقي يا أستاذتنا ..حقيرٌ (كثعلبة) لن يبحثوا عنه إن سُمِم أم لا..)) أجابت ( المُعلّمة الخبيرة ) والإقامة لصلاة العصر تتردد في الأجواء :
((..وإن حللوا..!!! السُم مصنوع بقُدرة ..لقد كان أجمل هدية من الصيدلانية صديقة ابنتي- رحمها الله- التي هلكت حزناً على موت ابنها مطعوناً على يد ذاك..الحقير..)).
..أجاب القصير الأسمر وهو ينحرف جهة اليسار :(( رحمها الله وولدَها..سأدرِكُ صلاة العصر الآن ، ..لاتنسي يا أستاذة غدا لجنة ٢٥ .. سلامنا للأستاذ يا ( خبيرة) ..))….
(تمت).

مايسة عبد الحميد

نائب رئيس مجلس إدارة الموقع
شاهد ايضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: <b>Alert: </b>Content selection is disabled!!