حدث في يناير ((..لحظات مِن…!! مع….؟؟!))

كتب/ شريف محمد
..توقفت السيارة الأجرة أمام ذلك المنزل القابع في آخر شارع ( ٩) …
(( ..الهدوء هنا قاتل..))..عبارة أطلقها السائق وهو يتفقّد أجرة التوصيل من السيدة الشابة وهي تحمل طفلها الرضيع وتَهمّ بالمُغادرة ؛ لم تلتفت إليه ، ولم تُعلّق ، فلقد أعتادت كحال سُكّان هذا المربع من الشارع سماع هذهِ العِبارة…( الهدوء القاتل) ، لكن زاده برد (يناير) وَحشَة.
..مدت يدها داخل حقيبتها الكبيرة المُعلّقة على كتفها الأيمن ، بينما الرضيع يتثأب وقد أسند رأسهُ إلى كتفِها الأيسر ؛ جاءتها النجدة ، المحمول يرن و يُضيء داخل الحقيبة ، لتجد مفتاح شقة والديها ، فتَلتقطهُ والمحمول وتغلق الحقيبة بحركة أُمهَاتِيّة بارعة ،..
((..وصلتِ؟؟! ..)) كانت عبارة الزوج .
(( ..حالاً..ما هذهِ الضوضاء حولك.؟!!..))
((..لا عليكِ ..رجاءً لا داعي للنقاش مع أخيكِ والصِدام..وإذا وَجدتِه في حالة غير طبيعية فتجنبيه و انتبهي لابننا.. لا إله إلاّ الله..))
أكملت : ((.. محمدٌ رسول الله..)).
..تحسست بقدميها أرض مدخل البناية بطوابقها الثلاثة حيث شقة الأهل ذات الحديقة الصغيرة .
…مالت جهة اليمين باب البناية الداخلي مفتوح على غير العادة ، صعدت الدرجات الأربع ، في مواجهة باب شقة والديها دفعت بالمفتاح في الثُقب ، فاستقبلتها هذه المرة رائحة عفونة شديدة تملأصالة الشقة المظلمة ، ذات الأثاث الكلاسيكي .
..وضعت الأكياس البلاستيكية ، أغلقت الباب بالمفتاح من الداخل ، التفتت جهة اليسار حيث مصدر صوت.. تلفاز غرفة أخيها ، وضوء
خافت يرسم إطاراً حول باب الحمام ، في طريقها للمطبخ نادت : (( أمير..أمير..أنا أمل
..أمعكَ أحد ؟؟..أ..))..
..قذارة المطبخ ، ورائحة العفونة في الشقة والتي كان للمطبخ نصيب منها، فرائحة الطعام المُنتِن ، بجانب تلك الرائحة المنفجرة في الشقة؛جعلتها تَفغَر فَاهَا ، حتى كادت تُسقِط رضِيعها ؛ …
..مِفتاح نُحاسي عتيق من بين حلقة المفاتيح في يدها تديره داخل موضعه في غرفة والديها المُتوفَّان.
في ظلام الغرفة الأنيقة الأثاث ، الأقل تشبُّعاً بالروائح الكريهة ..وضعت الرضيع الذي يغُطُ في سُباتِه العميق على سرير والديها النظيف ، و انسحبت في هدوء..
اتجهت للحمام بصوتٍ يكتم الغضب :
(( .. هل ستبات في الحمام ؟!!!! أسرع من فضلك ..))
..انهمكت في جمع القمامة ووضعِها في أكياس كبيرة ،خلال نوبات من السُعال كادت تصل للرغبة في القيءِ..
..شعرت بمرور أمير من خلفِها مُسرعاً في الطرقة ، لم تكترث فقد اعتادت مُشاغباته .
…انفصل التيار الكهربائي بشكل مُفاجئ.. رفعت صوتها بحدة هذه المرة
((.. أمير ؟؟))…أين أنتَ ؟؟…
..فإذا بها تصطدم بجسد طويل عند باب المطبخ صرخت فَزِعة..في ظلام المطبخ الدامس.: (( ..أمير !!! ..كفاكَ رُعباً وأشعل الشمع..))
أجاب بصوت أجش مستتر وقد غاص في ظلام الصالة : ((..أين الشمع ؟؟!!))
((.. إذن أنتَ ثَمِل كالعادة…أجلس على كرسي والدنا في الزاوية وأنا سأشعل الشمع..))..
..أشعلت شمعتين ، تركت إحداهما في الصالة ، وتحركت بالأخرى في الشقة تتفقد طفلها النائم ، وأخيرا استقرت أمل في المطبخ تُعد العشاء على ضوء الشموع..
((.. كم هي رومانسية هذهِ الليلة..عشاء على ضوء الشموع..))
بين الدهشة والابتسامة صدم الصوت من عند باب المطبخ- الغارق في الظلام- أمل ..قالت وهي مستمرة في تجهيز العشاء..على ضوء الشمعة أمامها
((.. متى أصابتك تلك الرومانسية ؟..طوال عمرك تكره الظلام..)).
تحرك من خلفِها ليمُد يده مُلتقطاً طبق الخَضراوات ، وقع بصرها على كفه الملفوف بضمادة بيضاء ملوثة بالدماء ..
(( ..سلامتك ماذا بك ؟؟)) أدار لها ظهره مسرعا لباب المطبخ في قلب الظلام..
(( ماذا بكَ الليلة .))
انغرس مكانه للحظة ثم تحرك تجاه الظلام مبتعدا أكثر عند باب المطبخ…. أكملت :
((..صِرتَ متعاوناً تحمل الأطباق لطاولة الطعام في الصالة..
تتحدث بأدب معي..!!.. مع أنه.. يبدو من صوتك بعض الثَمالة !! ..وترتدي معطف أبي الصوفي الأزرق …))..
..اندفع حاملا الطبق إلى ظلام الصالة حيث طاولة الطعام.
… شق صوتها من المطبخ السكون وسط الظلام
((.. أعددتُ لك شطائر الجبن ( الريكفور ) و ( الشيدر ) المستورد..أي خدمة..))
..لم يَرد هذهِ المرة ، تحركت في الظلام للصالة فلم تجده ؛ وضعت صحن الشطائر على الطاولة ، أمسكت حامل الشمع و اتجهت نحو الطرقة؛ جذب أذنها في الظلام الحالك صوت (مُناغة) رضيعها أسرعت لغرفة والديها …أمير راكعاً على ركبتيه على الأرض بمُحاذاة السرير الكبير ..يربت بكفه على صدر الرضيع ، وهو يُتمتم بكلمات ، جحظت عينا أمل في الظلام عندما استوضحتها آياتٍ قرآنية..
حاولت الاقتراب نحوه والطفل ، رفع صوته بالترتيل ناهراً لها عن الاقتراب….
..تحركت بضوء شمعتها خارجةً ، وكلها دهشة …ماذا صاب أمير اليوم ؟!!!..متعاون ..هادئ .. يردد آيات من القرآن ولماذا؟!!! ليُطمئِن من روع رضيعي الذي طالما أفزعه بصراخه معي
..وهاهي قرابة الساعة تمر ولم نتطاحن أو نتصايح كالدِيَكَة…والأعجب والأغرب يرتدي مِعطف أبي الذي كثيراً ما أغضبه في حياته.
لم يقطع حبل هواجسِها الممتد من عمق الممر بين الغُرَف حتى طاولةالطعام إلا عبارة ((.. شكرا جزيلا..)) لتنفجر دهشة أخرى داخل أمل عند أعتاب طاولة الطعام ، فوقفت و كفٌ يُسرا ترتدي قفازا تمتد من وسط الظلام كشفتها ضوء الشمعة..
..واصل صاحب الكف الحديث بأدب ((.. هل هذا صحن شطائري..))..تمتمت ((..نعم..)) لينسحب صاحب الصوت المُكمم و الكف المُقفّز الممسك بالصحن ..إلى ركن الصالة البعيد والمُظلم..حيث جلس على الكرسي المرتفع المسند، مُختفياً وراءهُ.
…ما بين الفزع والخوف والفضول تتظاهر أمل بجلوسها إلى الطعام عند الطاولة ، بينما انخرط صاحب الكف في التهام الشطائر بِنَهمٍ ظاهرٍ من صوتِ ازدرادِهِ للطعام..
..فإذا بصدمةٍ كُبرى جعلت أمل تنغرس في كرسي (السُفرة)، وكلها فزع يصل درجة الانهيار ، إنه صحن شطائر الجُبن أمامها .. لقد أخذ هذا الجالس خلف ظهرها صحن شطائر البيض و التونة، و أمير لديه حساسية قاتلة من البيض والأسماك..
..هذا ليس أميراً ..مَن… ؟؟
((.. كان البيض شهياً..))
((.. بالهناء
والعافية ..)) أجابت صوتٍ مرتعد..حتى عينيها تفزع أن ترفعهما لتستوضح مَن الأخ..
..أفتح باب الشقة وأركض..لكن ابني..
…نعم..المحمول..
..المحمول في حقيبتي..اتصل بزوجي..و..ماذا ؟..
إنهُ في ثَكنتهِ العسكرية الآن… لألتقط محمولي أولاً ثم أفكِّر.
..أسرعت لمحمولها في الحقيبة على الاريكة وسط ظلام الصالة لكنهُ بِلا إشارة !! ..ما الحل..يا إلهي أنت المُنقذ…ألهمني الصواب…الهاتف الأرضي..نعم .الهاتف الأرضي….حتى هذا بدون حرارة….نعم سأحمل حقيبتي وأختبؤ في غرفة أبي مع رضيعي ثم أتدبر الأمر…
((..أ أعد لكِ الشاي معي ؟!!))..
…انتفضت شاهقةً على الأريكة بمجرد سماع صوت ذاك الغريب..أجابت باصطناع ((.. يا ليت..)).
..تحركت ببطء وسط الظلام لكن على ضوء المحمول هذهِ المَرة ، متجهةً للغرفة حيث الرضيع.
طَرقَات قوية على باب الشقة جعلتها تصرخ في هيستريا من البكاء والعويل..((..أنجدوني….))..
صوت يخترق نافذة غرفة الأب من الخارج ..((افتحي يا أمل..أنا زوجك أحمد…))
أسرعت لفتح النافذة..وهي تصرخ..باكية
((..أنجدني ..أنجدني و ابني..)).. يقفز أحمد بزييه العسكري سريعاً من النافذة إلى داخل الغرفة
((..كيف عرفت بما أنا فيه؟؟!!))
(( حبيبتي لقد نزلنا من ثكناتنا لتأمين الناس حتى المجتمعين في الميادين، وعندما هاتفتُكِ كنت على مقربة من هنا..))..
.. اصطدام شيء بالخارج يقطع حوارهما..
.. يفتح باب الغرفة مُسرعاً وسط الظلام .
..لحظات النور يملأ المكان ..لا أثر لغريب.
تحتضن أمل ابنها خارجةً من غرفة ابيها في حراسة الزوج الذي عقدت الصدمة لسانه..
أمير في غرفته المقابلة لغرفة والدي أمل وهو غارقٌ في دمائه..وراحة العفونة تملأ الأجواء.
..صرخات أمل لنجاتها ولحزنها على مقتل أخيها المشاكس ، لم يجعل عقلها يتوقف عن التفكير….
. ..تُرى من هذا …؟؟..وماذا كان سيحدث من هذا الشيطان الخلوق لو استمر لوقتٍ أطول؟؟؟!!!!..
..لقد كانت أغرب لحظات مع….؟؟؟!!
(تمت)
..