صداقة بلا حدود

كتب / شريف محمد
..لم تنجح محاولاته في منعها من النزول ، ولا حتى زمهرير يناير البارد في ذلك العام ؛ سارت بمحاذاة سور المدرسة الفرنسية متجهةً لامتداد شارع ٩ من جهة ثكنات المعادي الذي بدا خالياً من الحياة مقارنةً بليلة الخميس .
عند حجرٍ صخري بارد وتحت ضوء عمود إنارة غلب الظلام نوره ، دموعها المنحدرة كمياهٍ كبريتية متدفقة حرارتها تكوي خديها وتزيدهما حمرة بجانب لفحات الهواء البارد ، شعرت بالإعياء والتعب لا من السير فهي لازالت على بُعد خطوات من منزلها الجميل ، أو هكذا يراه الجميع من أهلها ، هذا المنزل الذي صار مُفزِعاً لها ، حيث تعيش أشباح الخيانة والإهانة والغدر من ذلك الحبيب المُدعي.
ألهمها عقلها السابح وسط جحيم بحرخيانة ‘علاء’ أن تهاتف صديقتها الوحيدة المُقربة “نسمة”؛ رغم قِصر فترة صداقتهما الزمنية إلاّ أنها طوال سكنها بالطابق الأعلى لشقتها كانت ونِعمَ الأخت. مُجرّد صوت رنين هاتفهابعث الأمل و السَكينة في نَفس ‘شهد’ وأوقف الدموع المنحدرة صوت نسمة :
” السلام عليكم ، كيف حالك يا ‘شوشو’..”،
صرخت شهد :
” أغيثيني يا نسمة ، أنجديني “
” ماذا حدث ؟ !”
” علاء في حياته امرأة غيري ، علاء على علاقة بامرأة أُخرى “
بصوت كله صدمة قالت نسمة :
” كيف عرفتِ..؟!”
أجابت شهد:
” يهمس في هاتفه المحمول كثيراً ، يضحك ضحكاتٍ مُريية ، بقائي أنا وابنتنا أو رحيلنا لم يَعد له قيمة لديه..”
قاطعت نسمة شهد:
“..حبيبتي آسفة جداً دقائق وأهاتفكِ..”
..سرت برودة داخل جسد ‘ شهد’ النحيل الأنثوي القسمات ؛ بشفاهٍ مكتنزة تبللها الدموع طبعت قُبلةً حانيةً على خد طفلتها ذات السنوات الأربع ، والتي تحمل كل ملامح والدها الخائن لأمها.
ضوء سيارة أجرة يخترق الظلام بين أعمدة الإنارة الباهتة الإضاءة كهذه الليلة الباردة من يناير العاصف ؛ عادت للجانب الآخر من الطريق مرةً أخرى؛ في انتظار اقتراب السيارة الأجرة. تتأهب للإشارة إليها ، بصوتٍ مرتفع حاد النبرة صرخت شهد:
” المترو”
توقفت السيارة ؛ بصعوبة فتحت شهد باب السيارة وهي تهمّ بالركوب هبط السائق ، رجل تجاوز الستين من عمره ، تُخفي قبعته الصوفية و لفافاته الكشميرية وجهه الهادئ ؛ تأكد من ركوبها وابنتها الغارقة في النوم على يدها ، واستودع حقيبتها صندوق الأمتعة في مؤخرة السيارة ؛ وما أن تحركت السيارة حتى ترددت نغمات هاتف الرجل دون انتباهةٍ منها أنهى حديثه..باغتته شهد :
” كم تأخذ وتُقلِّني لمدينة نصر ؟”
أجاب بصوتٍ ضاحك : ” مدينة نصر ! من الجنوب إلى أقصى الشرق.” قطع حديثه رنين هاتف شهد بنغمته المبهجة التي بدت قمة الغرابة في تلك الليلة الحزينة ، قالت شهد وهي تدقق النظر في شاشة المحمول :
” عفواً هلّا توقفت جانباً يا أستاذ..؟!”
توقف وهو يتمتم بصوت غير مسموع :” كنت ستربح العشرات منذ ثوانٍ، والآن لن تتحصّل على عشرة جنيهات ..”
بصوت متماسكٍ ردت شهد :
“..نسمة ..أنا في السيارة الأجرة أنا لا أعرف ماذا أفعل ، لازلت أفكّر في الذهاب لأمي..”
أجابت نسمة بصوت نبراته المتحمسة تتطاير من منفذ محمول شهد:
” تفكير سليم..”
واصلت شهد :
” و لكني أفكّر في المجيء إليكِ..”
” لا لا أنا لست في البيت، أنا في طريقي لبيت أمي ، الأولاد هناك ، و زوجي في المصنع منعوه من المغادرة بسبب تصاعد الأحداث في التحرير، عندما تصلين لوالدتك طمئنيني عليكِ والبنت سلام ” ؛ وسط حالة من الدهشة والتفكير تنظر شهد لهاتفها المحمول وهو يخفُت نوره.
بدد الصمت صوت السائق المتحير :
” ما العمل الآن يا أستاذة ؟ المترو أم مدينة نصر أم (للخلف دُر).؟” ألقى السائق كلماته وهو يبتسم ؛ وبينما شهد تهمّ بالإجابة، فاجأها السائق العجوز بالالتفات من خلف مِقودهِ لتلتقي عينه اليمنى بوجه شهد وهو يقول :
” يا أستاذة حضرتِك بعمر أحفادي ، والجو بارد جداً ، والمظاهرات تجتاح ميدان التحرير ، وأخبرني صديق منذ ثوانٍ بحالة الفوضى في أحياء القاهرة ، ونحنُ هنا في مأمن ، أياً كان السبب لا تغادري بيتكِ أبداً ..”
وفي لحظة تفكير وجدت شهد صوت الرجل كصوت أبيها المُتوفّى منذُ أعوام فأجابتهُ بذهول :
“.. لكنه يخونني ، على علاقةب…”
قاطعها السائق :
” يخرج هو ، فليذهب إلى الجحيم..” قاطعته بفزع :
” أبعد الله عنه الشر ، ابنته تحتاجه..”، قال السائق ضاحكاً بصوته الأجش وهو يلتفت لمقوده :
” إذن للخلف دُر ، ولتضعي ابنتك في دفء فراشها ، و..” قاطعته وكأنها تقترح عليه :
“سأتصل بأمي أولاً “
كررت المحاولة ولا فائدة ، قالت للسائق :
” هلّا تحركنا؟ فيبدو أنه لا شبكة محمول متاحة هنا ..”
أجاب السائق :
” ولكنكِ حادثتي صديقتَكِ من لحظات ، استمعي لنُصحي عودي لمنزلكِ ” ثم واصل حديثه وهو يُخرج هاتفه :” حتى هاتفي بلا إشارة ؛ صدِّقيني أنتِ مثل ابنتي الليلة الأمور مضطربة “؛ قالت بصوت ظهر عليه الاقتناع :” لكن نسمة قالت” فقاطعها بغضب ملتفتاً لها مرةً أخرى : ” هذهِ ليست صديقة صدوقة تلك التي تدفعك لخراب بيتك..”
قالت شهد وقد بدأ يعلو وجهها الابتسام : ” إذن سأتعبكَ معي أوصلني إلى محطة مترو المعادي لشراء بعض الطلبات و الأطعمة ”
قال السائق وهو يلتفت أمامه ويُدير مفتاح سيارته :” أكمل الله تعالى جمالك بكمال عقلكِ” .
…ابتسمِ قائلاً و هو يفتح باب سيارته الخلفي الأيمن:
” حمداً لله على السلامة يا هانم ” ومد يده ليلتقط الصغيرة التي كانت بكامل استفاقتها هذهِ المرة بعد أن غفت لساعة
من أكثر ساعات تلك الليلة ثورةً ؛ قالت شهد وهي تنقد السائق أُجرته:
” كل كلمات الشكر لا توفيك حقك لما فعلته معي الليلة يا أستاذ أحمد “
أجاب وهو ينظر للنقود :
” أولاً عم أحمد أنتِ مثل ابنتي ، ثانيأ هذا كثير جداً ،ثالثاً المظاهرات السبب في عودتك لمنزلك ” ، و بينما كان يحاول رد جزء من النقود على أضواء الشارع التي يحجبها ضباب( شبورة) بدايات اقتراب نصف الليل قاطعته شهد :
” أقسم بالله لن ترد شيئاً..” .
أصر السائق الشهم على حمل الأكياس البلاستيكية لمشتروات شهد تلك الليلة وكذا حقيبة الملابس ،وغاص بهم في ظلام وبرودة الممر المتداخل الأشجار بضوئه الخافت حتى بلغ مدخل المنزل الهاديء ذي الطابقين ، وأطرق مُصعداً تتبعه شهد ، ضغط السائق وسط ظلام السُلّم على زِر جرس الباب ، لتضيع رنة وراء أخرى في فضاء السكون بلا مُجيب ؛ أنزلت شهد طفلتها أخرجت مفتاح باب الشقة دستهُ في موضعه لينفتح الباب عن شابٍ ثلاثيني متوسط الطول مُرسَل الشعر قصيرهُ ، وجيهاً في الدنيا ، وهو قائمٌ يُصلي مُرتدياً ذلك (الروب) الحريري الملمس الأحمر اللون ؛ وما أن وضع السائق الأكياس البلاستيكية أمام باب المطبخ إلى يمين الداخل من الصالة الفاخرة الأثاث الخافتة الإضاءة ،الدافئة ، المُتفجرّةالعِطر الفَجّ، حتى كان قد فرغ علاء من صلاته واحتضن طفلته فزوجته المُقتضبة الجبين وقَبّل رأسها فوق قبعتها الفرو فقطعت قُبلته بصوت حادٍ :
” أشكر عم أحمد السائق المحترم ..”،
صافحهُ علاء بحرارة وحاول إعطاءه بعض النقود لكن الرجل تحرّج و تحرًك خارجاً وهو يقول :
” ألف شكر يا سيدي ، لكن رجاءً انتبهوا لباب المطبخ” ، قال ذلك وهو يهبط السُلّم الذي كانت بَعثت فيه الحياة والدفء الأنوار التي أُضيت و كلمات الشكر من علاء وشهد وجها البدر ليلة التمام.
..اخترق ضباب الشارع المظلم البارد ليقبع خلف مقود سيارته التسعينية الصنع يتفقد ما أفاءَ الله عليه الليلة من رزق ؛ أدارَ مُحرك سيارته وما أن نظر في مرآته الكاشفة لما خلفه ، حتى استوقفه خروج شبح يبدو أنه لامرأة من منزل شهد وعلاء ، دقق نظرهُ في المرأة خوفاً من أن تكون شهد مرة أخرى، اقترب الشبح من زجاج بابه الأمامي الأيمن ، ليَستَيقن أنها ليست شهداً ،و ليُباغِتَهُ الشبح خلف عباءتهِ السوداء بوجهٍ أبيض كامل الاستدارة مُلطخ بكل مساحيق الإثارة في التبرّج ، و بصوتٍ نسائي يُخفي خوفه خلف رقته قالت :
” زهراء المعادي..”
بعد ترددٍ لثوانٍ أجاب بصوتٍ مُتعب :
” تفضلي يا هانم “، ولرغبةٍ في اليقين لا الفضول أدار وجهه ليرى مَن تلك التي خرجت من المنزل الذي كان بداخله منذ دقائق ، خاصةً بعد أن ملأت أجواء السيارة رائحة عطرِها ، ذلك العطر الفجّ الذي أزكم أنفه منذ لحظات في صالة علاء ، فإذا بالعباءة السوداء تنكشف عن ساقٍ أنثوية بيضاء لجسدٍ عارٍ من الملابس تحتها ، جسدٍ غضٍّ مُمتلئ بالأنوثة الغامضة رغم سفورها من كل ثنيات العباءة السوداء الفاخرة ، وحتى لا يقتلَهُ فضوله قال وهو يتأمل في المرآة الكاشفة لما خلفه من جمال الكاسية ظاهراً ، العارية باطناً :
” أتسكنين في ذلك الشارع يا هانم ” ،
أجابته بامتعاض :
” لا.. كنتُ في زيارة لصديقة ” ، فبادرها وهو يلف مقوده مبتعداً عن المترو :
” أستاذ علاء صاحب البيت من أفضل زبائني ” همست ” علاء” بلمعة كشفتها أضواء الشارع وهي تنظر لجسدها الثائر كثورة تلك الليلة من يناير ثم واصلت بصوتٍ حادٍ غير مبالٍ :
” زوجتهُ صديقتي “؛ عقدت الصدمة لسان الرجل وجحظت عيناه الناظرة في المرآة وهمس لنفسه ” …نسمة ..؟!!”
رفعت صوتها بحدة :
” أهمست بشيء ؟”
فأسرع مجيباً والدهشة تخنقه وهو يحاول غلق نافذته:
” تباً لها ‘ نسمة’ يناير الباردة” .
(تمت)