فرجينيا وولف تلتقي مي زيادة في مسرحية “انتحار معلن”… من دون حوار
متابعة: ابراهيم عطالله
ثمة تشابهات كثيرة بين الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف (1882-1941) وبين الكاتبة اللبنانية مي زيادة (1886-1941). الأولى لم تشغل الأوساط الثقافية العالمية بكتاباتها التي أسست لما يسمى بـ “تيار الوعي” فحسب، وإنما شغلتها أيضاً بإصابتها بمرض الهوس الاكتئابي ثنائي القطب، والذي أفضى بها إلى الانتحار بإلقاء نفسها في نهر “أوس” المجاور لمنزلها بعد أن كتبت إلى زوجها رسالتها الشهيرة. أما الأخرى فقد نالت مكانة مرموقة في الأوساط الثقافية العربية، وشغلت هذه الأوساط بكتاباتها وقصائدها وصالونها الأدبي وعلاقاتها العاطفية مع عدد من أدباء عصرها- الحقيقية منها والمدعاة- ونهايتها المأسوية التي يمكن اعتبارها انتحاراً أيضاً، حيث تردد أنها تناولت جرعة كبيرة من الأدوية فقدت على إثرها الوعي، وتم نقلها إلى مستشفى المعادي في القاهرة، الذي حاول أطباؤه إنقاذها على مدى ثلاثة أيام، لكنها فارقت الحياة بعد فشل تلك المحاولات، ولم يسر في جنازتها سوى أحمد لطفي السيد، وخليل مطران، وأنطوان الجميل.
في حياة الكاتبتين ما يستحق التأمل، بخاصة فترة الطفولة والصبا بالنسبة إلى الأولى، والتي عانت نفسياً جراء اعتداء أخيها غير الشقيق عليها، وفترة الشباب بالنسبة إلى الثانية بعد وفاة أبيها ثم أمها، وعلاقتها غير الطيبة بأقربائها، وقصة حبها لجبران الذي لم تقابله مرة واحدة في حياتها؛ كما قيل.
مونودراما مسرحية
التقط الكاتب السعودي سامي الجمعان هذه التشابهات بين الكاتبتين، وصاغ نصه المسرحي “انتحار معلن” واختار المونودراما قالباً له، وهو اختيار موفق، حيث يتيح للسارد/ الممثل مساحة أكبر للبوح وتصوير عذابات النفس في حال الكاتبتين. لم يكن الهدف بالتأكيد هو سرد أحداث يعرفها الجميع عن الكاتبتين، بقدر ما كان اختيار لحظات بعينها عميقة الدلالة والمغزى، تعينه على توصيل رسالته المتمثلة في إبراز مساوئ المجتمع الذكوري هنا وهناك، وعذابات الأنثى، وبخاصة صاحبة الرسالة، في مجتمع يتعامل معها باعتبارها سلعة لا أكثر، ويسعى إلى استغلالها قدر استطاعته.
تكمن أزمة النص في اكتفاء كاتبه بعرض مأساة كل واحدة على حده، خصَّ الأولى بمساحة أكبر، والأخرى بمساحة أقل، وتلك ليست المشكلة، المشكلة هنا أن الكاتب لم يستغل القماشة التي يعمل عليها بشكل يتيح له مساحة أوسع من الخيال تثري النص بدورها وتجعله أكثر احتداماً ودينامية، كأن يقيم حواراً ما بين الشخصيتين، بخاصة أنه ليس مطلوباً منا في الفن الالتزام الصارم بمجريات الأمور التي نتناولها، نقل الواقع بالمسطرة- كما يقولون- ليس دور الفن، هو بالتأكيد لم ينقل بالمسطرة، لكنه لم يجهد نفسه- في ما أظن- ليطعم نصه بقدر أكبر من الخيال، وقدر أكبر من المغامرة، يجعل منه واقعاً موازياً وجديداً ومختلفاً، الأمر الذي يجعل رسالته أكثر قوة وتأثيراً، وأكثر إثارة للجدل والأسئلة.
2 انتحار.jpg
لقطة من المسرحية (اندبندنت عربية)
هذا النص “انتحار معلن” عمل عليه المخرج المصري مازن الغرباوي ضمن مشروع “الشراكة العربية المستدامة بين المسرحيين العرب”، وتم تقديمه على هامش مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، في دورته الأخيرة. بغض النظر عن مسألة “الهامش” هذه، فالمهرجان لم يعد تسابقياً، بالتالي لم تعد كلمة هامش مناسبة، وإن برَّر القائمون عليه الأمر بأنه احتفاء بعرض ناتج من شراكة مسرحية مصرية سعودية تونسية يجب تشجيعها والالتفاف حولها.
العرض لعبت بطولته الممثلة التونسية منى التلمودي، التي ذاكرت الشخصيتين جيداً وأدركت أبعادهما ودوافعهما، كممثلة موهوبة أولاً، كأنثى عربية ثانياً، فجاء أداؤها للشخصيتين مقنعاً. بدت وكأنها تقدم نفسها وتقدم عذاباتها الشخصية، وإن وقعت في بعض الأحيان في مأزق “المونوتون”، وهو أكبر أعداء المونودراما، حيث يصيب المشاهد بالملل، وإن عوَّضت ذلك في لحظات التوهج والتنوع. ويبدو أن المخرج كان واعياً إلى ذلك فعمل على ضبط، وليس تسريع، إيقاع العرض، ووفق في رسم خطوط الحركة للممثلة، ونجح في إخراج كامل طاقتها على مدى أربعين دقيقة، هي مدة العرض، باستثناء بعض اللحظات المشار إليها. ومن حسنات التلمودي أيضاً انضباطها اللغوي، فلا هفوات تقريباً وسط هذا “الهياج” الذي قد يربك الممثل ويدفعه إلى الخطأ، ويبدو أنها تمرَّنت بشكل كاف أدى بها إلى السلامة اللغوية.
استعان المخرج بموسيقى طارق مهران التي عبرت عن وعي مؤلفها بطبيعة العرض الذي يعمل عليه، وفيه من التوترات النفسية والتقلبات الحياتية، والهوس، والجنون، ما يستلزم رهافة ما في التعامل معه.
الأحمر والأزرق
أيضاً لعب الديكور (صمَّمه رضا صالح) دوراً مهماً في تشكيل صورة هذا العرض، وبإمكانات بسيطة، تتيح فرصة التجوال بسهولة، فهناك ثلاثة “بانوهات”؛ واحد في العمق، واثنان يمين ويسار المسرح، ومكتب ومقعد هزَّاز. أما البانوهات الملونة بالأبيض فيتم استخدامها من خلال “الفيديو ما بينغ” في تحويل المسرح إلى شارع بكل ما فيه من حركة، أو نهر، أو أي منظر يراد الاستعانة به، عوضاً عن كتل الديكور الضخمة ذات الكلفة المادية المرتفعة، فضلاً عن صعوبة نقلها من مكان إلى آخر في حال ذهب العرض- كما هو متفق عليه- إلى أكثر من دولة.
هذه التقنية “فيديو مابينغ” استلزمت هي الأخرى إضاءة منضبطة (صمَّمها عز حلمي) غلب عليها اللونان الأحمر والأزرق، فالأول من الألوان الساخنة المرتبطة بالتعبير عن العنف والاستفزاز والإثارة، وكذلك عن الحقد والحب، والثاني من المجموعة الباردة، يشير إلى الهدوء والصفاء، ويقلل من الهياج والثورة، ويساعد على الاستغراق والتركيز، وكلاهما، كانا معبرين عن الحالات المختلفة التي مرت بها الشخصيتان.
الملابس التي صممتها مروة عودة، تنوعت لتناسب كل موقف تسرده الممثلة، وتميزت في أغلبها بأنها فضفاضة تتيح حرية الحركة للممثلة، فضلاً عن الألوان التي تناسب كل حالة و تتيح للإضاءة تأدية دورها بيسر.
إجمالاً؛ فإن التجربة فيها من عناصر المسرح الكثير الموفق، ويمكن تطويرها إذا عمل الكاتب على نصه مرة أخرى بدلاً من هذا اللقاء الصامت بين كاتبتين يمكن لحوار بينهما أن يضعنا في منطقة أخرى أكثر عمقاً وإثارة للأسئلة.