ملحمة زهران ورفاقه في دنشواي.. بقلم: دكتور ماهر جبر
ملحمة زهران ورفاقه … ما زلنا في إطار سلسلة المقالات التي نتحدث فيها عن المحاكمات التي هزت وجدان المصريين، وما زلنا نؤكد على أن الهدف الأساسي منها هو سرد التفاصيل الدقيقة لهذه المحاكمات، حتى نستطيع عن طريقها معرفة كم كان هؤلاء الرجال عظماء، وكيف ضحوا من أجل مصر، أو راحوا ضحية ظلم يقع عليها، على الجانب الآخر أيضاً الكشف عن رجال ذهبوا الى مزبلة التاريخ كونهم باعوا أوطانهم لقاء منصب أو جاه، ومحاكمتنا اليوم ليست محاكمة لشخص واحد، بل لعدة أشخاص، بل لا نغالي اذا قلنا أنها محاكمة للشعب المصري بكافة طوائفه، كما أن أحكامها نُفذت في جمع من أهالي المحكوم عليهم وأمام بيوتهم.
غير أن أقسى ما في هذه المحاكمة، وما يدعو للحزن والأسى كون جلاديها، ليسو من المستعمر كما يحدث كل مرة، بل من أبناء جلدة المحكوم عليهم، على إصرار من أحدهم أن ينال المتهمون أقصى درجات العقوبة، فكلما فُتحت أمام أحدهم بارقة أمل للنجاة، فندها بعبقريته الفذة التي لو استخدمها لصالحهم، ربما نجا أكثرهم، لكنه الغرض لعنه الله، فهيا بنا الآن نحكي ما حدث تفصيلاً:.
اليوم الأربعاء الثالث عشر من شهر يونيو لعام 1906م، الساعة الواحدة ظهراً، يوم قائظ الحرارة، المكان قرية دنشواي التابعة لمركز الشهداء محافظة المنوفية، طرقات القرية تخلو تماماً من المارة، لا يتراءى للناظر إلا بعض الفلاحين في أجران حقولهم، يجمعون حصادهم من القمح، بمساعدة نسائهم، والجميع تلهبهم الشمس بسياطها، في أحد هذه الأجران يقوم أحد الفلاحين ويدعى محمد عبد النبي مؤذن القرية بعمله هو وزوجته، والصورة تؤكد دورالمرأة المصرية على مر التاريخ كونها عضد زوجها وساعده الأيمن.
المشهد الآخر من الصورة لضباط انجليز يصطادون الحمام، فأصاب أحدهم زوجة الفلاح، واشتعلت النار في جرن القمح، فما كان من الأهالي الا أن اشتبكوا معهم، وطاردوهم حتى خارج القرية، بعد أن أُشيع وفاة المرأة، فحمل الرعب أحد الضباط ويدعى الكابتن ( بول ) الى الهرب مسرعاً نحو معسكره قاطعاً ثمانية كيلومترات في هذا الجو شديد الحرارة، فإُصيب بضربة شمس توفى على إثرها، وهنا علم العسكر الإنجليز بما حدث، فذهبوا مسرعين لمكان الحادث، فوجدوا الضابط وحوله بعض الأهالي يحاولون إعطائه شربة ماء، لكنهم لاذوا بالفرار خوفاً من انتقام الإنجليز وبطشهم، غير أنهم تم القبض عليهم إلا واحداً يدعى (سيد أحمد سعيد) الذي تقول الحكاية إنه إختبأ في فجوة طاحونة تحت الأرض، فقتله الإنجليز شر قتلة، بعد أن إنهالوا عليه ضرباً بالسونكي، حتى أصبحت أكبر قطعة في رأسه في حجم عملة النقود الصغيرة المسماة القرش تعريفة كما تقول مجلة المجلات العربية التي صدرت بعد الحادث مباشرة، وهذه الجريمة تم تجاهلها تماماً ولم تُذكر، كما لم تُذكر بعض الإصابات التي تعرض لها الأهالي وتم التركيز فقط على الإنتقام لمقتل الضابط الإنجليزي، وسريعاً تم القبض على عشرات الفلاحين، وتم تشكيل محكمة خاصة لمحاكمتهم، على أن يكون إنعقادها في شبين الكوم يوم الأحد الموافق 24 يونيو، وكانت المحكمة برئاسة بطرس باشا غالي نيروز ناظر الحقانية، عضوية احمد فتحي زغلول بك(شقيق سعد زغلول)،بجانب بعض الانجليز،وهيئة الدفاع مكونة من احمد لطفي السيد،اسماعيل عاصم،محمد بك يوسف،عثمان بك يوسف،أما الإدعاء فتولاه القانوني العظيم ابراهيم الهلباوي،أعظم من أنجبته مهنة المحاماة في تاريخ مصر،والذي أصبح فيما بعد أول نقيب للمحامين،استمرت المحاكمة من 24الى 27 يونيو.
وكانت مرافعته كمدعي عمومي سبباً مباشراً في صدور أحكام الإعدام والأشغال الشاقة ضد المتهمين، حيث قال واصفاً إياهم بالعصابة:. إني لأجزم لكم أن شعورنا نحو هذه الحادثة يملؤه الحزن ولا يوجد مصري لا يشاركني في هذا الشعور ولذلك أطلب الحكم على المتهمين بأشد عقوبة، فإذا تقدمت وطلبت رفع كل رحمة من نفوسكم لمعاقبة هؤلاء المتهمين وخصوصاً رؤساء العصابة لا أكون مغالياً.
ثم إستطرد في غيه وضلاله واصفاً كلاً من حسن محفوظ، محمد درويش زهران، يوسف حسن سليم، السيد عيسى سالم، محمد عبد النبي، أحمد السيسي، احمد عبد العال محفوظ، بأنهم زعماء الفتنة وطلب تطهير الهيئة الإجتماعية من الأول لأنه بلغ السبعين عاماً ولكن هذه المدة لم تطهر أخلاقه أو تهذبها. ووصل الى قمة هذا الغي والضلال حينما قال عن أهل دنشواي:. (إن هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قد قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصي والنبابيت وأساءوا ظن المحتل بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز 25 عاماً بيننا ونحن معهم بكل اخلاص واستقامة)، وأكاد أُجزم أنه لو كان المدعي العمومي من الإنجليز لما طاوعته نفسه الدنيئة أن يقول ذلك.
ومما يُذكر في ذلك تأكيداً على كيد الهلباوي لأهل دنشواي دون مبرر الا إذا كان مقابل جاه يبغيه، أو سلطان يأمل فيه، أن أحد الضباط الإنجليز ذكر أثناء شهادته أن المتهم التاسع عبد المطلب محفوظ دافع عنه وزملاؤه، وأعطاه ماء ليشرب وكانت هذه الشهادة كافية لتبرئته، ولما جاء الدور على الشاهد فتح الله الشاذلي نجل عمدة دنشواي ذكر هو الآخر أنه أعطى الضابط ماء ليشرب، فتنبه الهلباوي الى الشبه الموجود بين المتهم عبد المطلب محفوظ، وابن العمدة، فوقف ليقول إن الأمر قد إختلط على الضابط الإنجليزي، مما استوجب إعادة عرضهم على الضابط فأقر بأن من سقاه ودافع عنه هو ابن العمدة وليس المتهم، وهكذا حرم الهلباوي المتهم من فرصته في النجاة من الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
يوم تنفيذ الحكم:.
يصف مراسل الأهرام في عددها يوم 29 يونيو 1906م ذلك اليوم ( ولما وصلت دنشواي نظرت الى تلك الأبراج العالية، فلم أرى ذلك الحمام الذي كان يحوم كعادته حينما كنت أمر على تلك الناحية لقضاء أعمالي، كأنه حزين على ما كان فأقسم أن ينوح في أبراجه فلا يخرج في ذلك اليوم العصيب ……… وفيها ثلاثة خيام إحداها بالجهة الغربية، وقد أُعدت لوضع جثث اللذين يُعدمون، خيمة بالجهة الشرقية لوضع جميع المتهمين فيها قبل تنفيذ الحكم، والثالثة لوضع المتهمين المراد جلدهم بعد إنفاذ الجلد، وعند وصولي كانوا ينصبون المشانق، وعلقت آلات الجلد في أطراف المشنقة، ورأيت الأهالي في حزن شديد لا أستطيع وصفه، فما بالك بأطفال ونساء سيرون بعد قليل أبيهم يتدلى من هذه الأعواد أمام أعينهم، ثم وصل المتهمون للساحة لتنفيذ الأحكام عليهم فلا تسل عن الصراخ والبكاء ).
بينما يصف لنا الصحفي أحمد حلمي (سُمي بإسمه ميدان أحمد حلمي في القاهرة)، في مقاله الرائع المعنون (يا دافع البلاء) في جريدة اللواء لصاحبها مصطفى كامل في العدد الصادر بتاريخ 30 يونيو 1906م يصف الإعدام والتعذيب في دنشواي قائلاً:. وحينئذ كان دمي قد كاد يجمد في عروقي من تلك المناظر الفظيعة فلم أستطع الوقوف بعد الذي شاهدته، وكنت أسمع صياح ذلك الرجل يلهب الجلاد جسمه بسوطه، هذا ورجائي من القراء أن يقبلوا معذرتي في عدم وصف ما في البلدة من مآتم عامة وكآبة على كل بيت، وحزن باسط زراعيه حول الأهالي، حتى إن أجران غلالهم كان يدوسها اللذين حضروا لمشاهدة هذه المجزرة البشرية، وتأكل منها الأنعام والدواب وكأن لا صاحب لها، لأني لم أتمالك نفسي وشعوري أمام البلاء الواقع الذي ليس له دافع.
وأخيراً يصور لنا د محمد حسين هيكل هذا اليوم الأسود في كتابه تراجم مصرية وغربية بقوله(ونُفذ الحكم بطريقة همجية لا عهد للإنسانية بها منذ عصورها المظلمة، فقد نُصبت المشانق التي أُرسلت الى قرية دنشواي قبل صدور حكم المحكمة أمام منازل الأهالي مباشرة، ونُصبت الى جانبها آلات الجلد، وغداة صدور الحكم نُفذ على صورة يقشعر من هولها البدن، فكان كل محكوم عليه بالإعدام يُعلق في مشنقة ويبقى معلقاً أمام أنظار أهله وأبنائه الى أن يجلدوا إثنين من المحكوم عليهم بالجلد، وكان هؤلاء يُجلدون بكرابيج ذات ثمانية ألسن معقود طرف كل لسان بقطعة من الرصاص، ومن حول المشانق والمجالد وفوق أسطح المنازل وقف الناس من أهل هؤلاء التعساء وذويهم يشهدون جلودهم تُشوى بالكرابيج وجُثثهم فارقتها أرواحها معلقة في المشانق، ومستشار الداخلية الإنجليزي واقف يُحافظ على النظام لهذا المشهد اللذي أبدعته إنجلترا في مطلع القرن العشرين، ما أشدها وحشية، وما أتعسها حضارة) .
ردود الفعل على هذه الحادثة:.
إنبرى الشعراء والأدباء يُعلقون على ما حدث ليفضحوا فظائع المستعمر البريطاني، فكتب صلاح عبد الصبور قصيدته الرائعة عن زهران في ديوانه (الناس في بلادي) التي نختار منها هذه الأبيات :.
كان زهران صديقاً للحياة، مد زهران الى الأنجُم كفاً، ودعا يسأل لطفاً، ربما سورة حقد في الدماء، ربما استعدى على النار السماء، وأتى السياف( مسروراً ) وأعداء الحياة، صنعوا الموت لأحباب الحياة، وتدلى رأس زهران الوديع، كان زهران صديقاً للحياة، مات زهران وعيناه حياة، فلماذا قريتي تخشى الحياة.
بينما غرد أمير الشعراء :. يا دنشواي على رُباك سلام، ذهبت بأُنس ربوعك الأيام، كيف الأرامل فيكي بعد رجالها، وبأي حال أصبح الأيتام، نوحي حمائم دنشواي وروعي، شعباً بوادي النيل ليس ينام.
ومن الجدير بالذكر أن الهلباوي عاش حياته بعد ذلك منبوذاً من كل طوائف الشعب المصري، حتى يُقال أن الصبية كانوا يقذفونه بالحجارة كلما رأوه، وحاول كثيراً في مذكراته بعد ذلك أن يكفر عن سقطته هذه لكن هيهات هيهات فلم يقبل منه الناس أي حجة حتى قال قولته الشهيرة ( ما أتعس حظ المحامي وما أشقاه، يُعرض نفسه لعداء كل شخص يدافع ضده لمصلحة موكله، فإذا كسب قضية موكله أمسى عدواً لخصمه، دون أن ينال صداقة موكله)، وراح يؤكد دوماً ويُشهد الله على أنه لم يكن وحده يستحق هذه الشهرة السيئة التي خلفتها عليه هذه القضية، بل هناك كثيرون أولى وأحق بهذا الصيت المشين، فالقضاة اللذين حكموا بالإجماع بالإعدام شنقاً وبالتعذيب بالسياط، وأولهم بطرس غالي، وفتحي زغلول لم يُنعتوا بتلك النعوت التي تراكمت على رأس الهلباوي، وكأنه لم يدري أنه هو من استنطقهم هذا الحكم بتفنيده لكل الحجج التي كانت قطعاً ستخفف عنهم هذا العذاب.
ورغم أن الهلباوي مدحه كثيرون قبل ذلك فكان العقاد يصفه بأنه ذا زلاقة لسان لا تطيق نفسها، ولا تُريح صاحبها، أما الشيخ عبد العزيز البشري فنعته في كتابه المرآة بأنه شيخ تزاحف على السبعين، عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب، ويبغضه ناس أشد البغض، الا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم الا التسليم بأنه رجل عبقري، غير أنه لاقى ما لا يحب من الشيخ عبد العزيز جاويش وهو من أطلق عليه لقب جلاد دنشواي، واتهمه بالعمالة للإنجليز وتقديم أهالي دنشواي قرابين الى هيكل الإحتلال الذي هو معبد الخائنين وقرة أعين المارقين، وقال ان الهلباوي قدم الضحايا الى الهيكل ببراهين يعلم أن حظها من الصحة كحظه من الوطنية، وقُربها من الحق كقُرب موقفه من العواطف البشرية، لكنها أموال إستهوته، ومناصب إستغوته، وعظمة للإحتلال إسترغبته.
ولما كان الله يُمهل ولا يُهمل، فإن لعنة دماء المحكوم عليهم طاردت جلاديهم فلم يهنأوا بمغنم حصلوه، أوسلطان جازوه، ولم يقر لهم جفن، فبعد سنوات قليلة مات فتحي زغلول في ريعان الشباب ولم يهنأ بحصوله على المنصب الذي أراده، أما بطرس غالي فقتله ابراهيم الورداني عام 1910م أي بعدها بأربع سنوات، بينما عاش الهلباوي أربع وثلاثين عاماً كما قلنا منبوذاً، وكان يملك أطيان كثيرة باع أغلبها، ولم يحصل على الباشوية وهي حلم عمره.