خيط رفيع بين المجاملة والنفاق .. بقلم : ماهر جبر
يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الرائع طبائع الإستعباد ومصارع الإستبداد “الإستبداد يقلب الحقائق في الأذهان . فيسوق الناس الى الإعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه الموفق ملحد. والخامل المسكين صالح أمين، وقد اتبع الناس في تسمية النصح فضولاً. والغيرة عداوة، والشهامة عتواً، والحمية حماقة، والرحمة مرضاً. كما جاروه على إعتبار النفاق سياسة، والتحيل كياسة، الدناءة لطف، والنذالة دماثة”.
ولفظ النفاق مشتق من النفق أي المكان المظلم في باطن الأرض، وهو أيضاً الشق الذي يخرج منه الفأر واليربوع من جحره. ويكون ذو فتحتين، فإذا أردت الفأر من مخرج هرب الى الآخر، وهو في ذلك يشبه المنافق أي الشخص الذي يأكل على كل الموائد .
فالمنافقون أشخاص تطأ هاماتهم وجباههم الأرض، ويلعقون الثرى تقرباً وتودداً لمن يبغون مصلحتهم عنده. ثم لا يمنعهم ذلك أن يهيلوا التراب عليه اذا إنقضت غاياتهم منه، أو ذَويَ من تملقوه عن منصبه فأصبح لا حول له ولا قوة. إلا أنه لا يجب الخلط بين محادثة الناس بلين الكلام، ومناداتهم بأفضل ما يحبون، وهو ما حض عليه الله ورسوله وباركه ديننا الحنيف. وبين النفاق الذي يبغي الشخص من وراءه تحقيق نفع خاص أو تجنب عقاب .
الناس في حياتنا ثلاثة
والقاعدة أن الناس في حياتنا ثلاثة، فأما أولهما فيختلف معك في كل ما تقول، ويرى كل ما تفعله خطأ، وهذا كاره لك. وثانيهما يبارك كل أقوالك وأفعالك، ويرى كل ما يصدر منك صواباً، وهذا ينافقك. بينما ثالثهما يصفق لك ويحييك اذا أحسنت، وينتقدك وربما يعنفك، ويقدم لك النصح اذا أسأت. ولا يتوافر هذا إلا فيمن يلتصق بك، وتعيش في داخله، ويقدمك على نفسه، وهم فقط أبيك وأمك.
غير أن خيط رفيع يفصل بين المجاملة والنفاق، لذا لا يجب أن تبالغ في المجاملة كما يقول شابلن حتى لا تسقط في بئر النفاق. ولا تبالغ في الصراحة حتى لا تسقط في وحل الوقاحة. وهو ما أكده ديننا الحنيف قبل شابلن وغيره بتأكيده على الوسطية في كل شيء. وما إتبعه محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، والأحاديث في ذلك كثيرة. ولعل أبلغ الأقوال ما قاله كاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان : لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، اذا شدوها أرخيتها، واذا أرخوها شددتها.
آفة الرأي الهوي
وآفة الرأي الهوى، وهذا ما يجعل المنافق وضيع النفس يداهن ويتذلل حتى إذا ما إنقضت حاجته. إرتد على عقبيه لا يذكر للناس أفضالهم، بل ويهيل عليهم التراب. ويقطع اليد التي إمتدت له بالخير، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة، لكن أرخص وأحط هؤلاء المنافقون، من يرفعون من يتملقوه الى مقارنته بالذات الإلهية. أو أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم سلامه، وبعض بني الإنسان جُبل على النفاق منذ القدم.
وربما هذا مايفسر كون أغلب الجبابرة والديكتاتوريين كانوا في بداياتهم ثواراً زاهدين، فأحالهم الإطراء والنفاق الى خونة فاسدين. فنرى الشاعر الأندلسي محمد بن هانيء يمتدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله.
وكانوا يعتبرونه ظل الله في الأرض، أوالحاكم بإسم السماء، قائلاً:. ما شئت لا ما شاءت الأقدار، فإحكم فأنت الواحد القهار. وكأنما أنت النبي محمد، وكأنما أنصارك الأنصارُ،أنت الذي كانت تبشرنا به، في كتبها الأحبار والأخبار. كما نرى أحدهم يمدح هارون الرشيد قائلاً: كأنك بعد الرسول رسول، بينما وصف غيره الخليفة المتوكل بأنه ظل الله الممدود بينه وبين خلقه. ويرفع النابغة الذبياني الملك النعمان بن المنذر الى أعلى ما نتخيل واصفاً إياه قائلاً:. ألم ترى أن الله أعطاك سورة. ترى كل مُلك دونها متذبذب، فإنك شمس والنجوم كواكب، اذا طلعت لم يبدو منهن كوكب.
رافق أحد الوزراء الخليفة في رحلة صيد، فرمى الخليفة بعيداً عن العصفور فطار، فقال له الوزير أحسنت يا سيدي. قال أتسخر مني ؟، قال الوزير أحسنت الى العصفور يا مولاي، بينما قال أحدهم في حضرة الخليفة وقد وقع زلزال أرعب الناس. يا مولاي ان الأرض ترقص فرحاً وطرباً من عدلكم.
ثم نتساءل في عجب لماذا يطغى ويتجبر الحكام والسلاطين .
نفاق رجل الدين
ومما يثير الدهشة عدم إقتصار النفاق على عامة الناس فقط، بل قد يتوفر لرجل دين وهو المنوط به قول الصدق والحق. ولو عند ملك ظالم(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظم الجهاد عند الله، كلمة حق عند ملك جائر).
فنرى بعضهم يمدح الملك فاروق في عيد جلوسه على العرش:. نمنحك ولاؤنا على كتاب الله وسنة رسوله، وكتبوا تحت صورته القدوة الصالحة. ويؤكد ذلك أيضاً ما ذكره أديبنا الكبير يحي حقي في كتابه (خليها ع الله)، يصور كيف يكون إنحناء رجال الدين للحكام وتملقهم. فيقول إن الخديوي توفيق كان يزور الصعيد في إحدى المرات، وعندما توقف القطار عند منفلوط. إنبرى أحد المشايخ يسمى أبو النصر مادحاً الخديوي بقصيدة طويلة حتى ضاق به ذرعاً. وسأله عن عدد أبيات القصيدة فقال تسعة وتسعون يا مولاي، فتعجب الخديوي سائلاً عن البيت المائة. فرد الشيخ قائلاً ستكمله أنت يا مولاي، وفهم الخديوي مقصده وأمر ببناء بيت له.
وقد يكون المنافق ممن يجلهم الناس ويتخذهم البعض قدوة ومثلاً أعلى، فهذا أمير الشعراء يمدح (من لا يُمدح)، مصطفى كمال أتاتورك، وقل فيه وفي حقده على الإسلام ما تشاء، ويساوي بينه وبين سيف الله المسلول خالد بن الوليد (الله أكبر كم في الفتح من عجب، يا خالد الترك جدد خالد العرب)، فينقلب خالد الترك على دولة الخلافة، ويكون سبباً في زوالها.
النفاق بالذم
ولا يُشترط أن يكون النفاق مدحاً لملك أو أمير، بل قد يكون ذماً لآخر إرضاءاً لهذا الملك أو الأمير، وفي ذلك ذم شوقي أمير الشعراء لعرابي إرضاءاً للخديوي عباس (صَغارُ في الذهاب وفي الإياب، أهذا كل شأنك يا عرابي)، وكان ذلك سبباً في أن الناس كانوا يمرون على عرابي بعد عودته من منفاه وقد كُف بصره فيبصقون عليه، وكأنه لم يفعل شيء من أجلهم، بل أصبح سبباً لكل ما حل بهم من كوارث.
وقد حول النفاق بعض الحكام العاديين الى زعماء، ثم الى أنبياء كما يقول نذار قباني، ناهيك عن التغني بأسمائهم، وتصوير كل ما يفعلون كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم، وهذا ما أوصل أغلبهم الى رفض الرأي الآخر، واعتقال بل والتنكيل بمعارضيهم، فكُممت الأفواه، وقُصفت الأقلام، وصُودرت الصحف والمجلات، واعتُقل أصحابها لمجرد رأي لم يعجب الحاكم.
كمال الجنزوري
يذكر الدكتور كمال الجنزوري وكان رئيساً للوزراء في سيرته الذاتية المسماة (طريقي)، أن السادات أراد في بداية حكمه أن يجعل له مجلساً من المستشارين يعود لهم فيما يستعصي عليه من الأمور، إلا أنه في الجلسة الأولى لهذا المجلس إنبرى أحد أعضائه قائلاً:. يا سيادة الرئيس كيف يكون لك مستشارين، وانت حاكم الأمة ومستشارها، فأنهى السادات الجلسة وألغى تشكيل المجلس، الا أن ذلك لا يعني أنه لم يغتر بما قيل فيه من مديح، لا سيما بعد إنتصار اكتوبر، مما جعله ينعت نفسه بأنه آخر الفراعنة العظام، وبطل الحرب والسلام، الرئيس المؤمن ……….. الخ.
ثم نتساءل لماذا يطغى ويتجبر الحكام والسلاطين.
خلاصة القول : أن خاصة الحاكم وحوارييه لهم فعل السحر في تحوله ربما من ثائر زاهد الى لص فاسد، فالقذافي كان ثائراً ضد الملكية في ليبيا، وبوتفليقة ثائر عظيم ضد الأحتلال الفرنسي، وتشاوشيسكو في رومانيا الذي بدأ مرفوعاً على الأعناق، وانتهى مرفوعاً على المشانق، كل هؤلاء حولهم جوقة المنافقين الى ديكتاتوريين يرفضون مجرد تفكير غيرهم في السلطة، فنصبوا المشانق، وقتلوا وشردوا خلقُ كثير، وعاثوا في الأرض فساداً، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، والمثير للدهشة أن من ثاروا على الملكية، إعتنقوها بعد أن أصبحت مقاليد الحكم بأيديهم، فنجد من ظل في الحكم أكثر من أي ملك سابق، بل وجدنا من أراد توريث الحكم من بعده، أليست هي الملكية التي ثاروا عليها.
حقاً السلطة مفسدة كبيرة، والعاقل من يتجنبها، فالسلطان من لا يعرف السلطان.