قصص وروايات

خروج وعودة 

خروج وعودة 

خروج وعودة 
أرشيفية

كتب / شريف محمد

وسط ظلام فجر تلك الجمعة الأخيرة من يناير ، بين أشجارالموالح يسير متلمساً طريقه الذي خَبِرَهُ منذ سنوات ، أشباح ضباب الفجر المُثلِج تعبث بالحقول المترامية على جانبي الطريق المُترِب لكن عند هامة ” رفعت” العالية ، وعباءته الصوفية السوداء الفاخرة ومنكبيه العريضين وبطنه الممسوح تقف مخالب ضباب الفجر صاغرة .
بعد أداء صلاة الفجر في مسجد الرحمة الذي اختطهُ ” رفعت” وأخوه ” عمر” ليكون أول بيتٍ أذِنَ الله أن يُرفع في هذه البقعة المباركة من صحراء مصر ؛ لم يخفِ” عمر” ذي القامة العالية هو الآخر ، والهِمّة الكبيرة والصوت القوي واللسان الفصيح مخاوفه عن أخيهِ الكبير والمُعلَّم ” رفعت” قائلاً :
” الأمر في التحرير ليس على ما يُرام ، أخشى أن ننزلق لفوضى تأكل الأخضر واليابس”
أجابه” رفعت” المُحاذي له في مشيته :
” ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين..”
قالها بابتسامتهِ الواثقة ،وقراءتهِ الفصيحة لكل ما سيحدث؛ لكن أمام مخاوف أخيه لم يمنع ” رفعت” يده من الاندساس وسط جيب جلبابه الرمادي الصوفي ليُخرِج هاتفهُ المحمول ناظراً لضوء شاشته وسط الظلام ، ولم يُخفِ قلقه هو أيضاً عندما لم يجد علامة الإشارة ظاهرةً في موقعها من الشاشة ، فقطع تسابيح أخيه السائر بمحاذاته قائلاً :
” المحمول بلا إشارة للشبكة !” ..
أجاب ” عمر ” من فَوره:
” ألم أقل لكَ الأمر جَلل. !”
واصل ” رفعت “:
” سأُهاتِف الأولاد في القاهرة من الهاتف الأرضي “
عاجله ” عمر” مُجيباً :
” وأنا مع خيوط الصباح سأتي لأطمئن ” ؛
تبادلا التحية و أسرع ” عمر ” لمنزلهِ وسط مزرعته بهمةٍ لا تنبئ عن أقترابهِ من عامهِ الستين ، بينما ” رفعت ” يتفقد إطارات سيارته الحديثة القابعة أمام مدخل منزله الريفي الجميل ، كأنما يتفقد فرسه قبل المعركة، وعقلهُ في الأولاد ، والهاتف المَنزوع الإشارة ، وكلام أخيه عن الأمرِ الجلل ، كلها أشياء تدور في خَلَدهِ وهو يدفع الباب الخشبي داخلاً لمنزله الدافىء وسط برودة الحقول والصحراء
في محرابها خلف مصحف التهجد الكبير في غرفتهما الهادئة الإضاءة جلست ” بثينة” المُعلمة الكبيرة ، الزوجة والسند ، والعَمد لذاك ” الرفعت” الهائم في أفكارهِ بين القلق الحالي ، والطمأنينة الكبرى ، القلق على الأبناء ، والطمأنينة على الاوطان ؛ صدَّقت ” بثينة” صدق الله العظيم ، ثم التفتت إلى ” رفعت” هامسةً :
” ثوانٍ ويكون طعام الإفطار مُعد ” ، أمسك بكفهِ اليُسرى القوية معصمها الرقيق قائلاً :
” ما رأيكِ لو أفطرنا اليوم مع أبنائنا ؟”
جلست ناظرةً له بعينيها المندهشتين :
” وخطبة الجمعة !
ثم أنه يوجد الكثير الذي ستحضره لي أم محمد لأخذهُ معي للأولاد.”
على الطريق الممهدة التي يعرفها جيداً قاد ” رفعت” سيارته شاخص البصر ، غير مُكترثٍ بكل ما قد يُضعف الرؤية من ضباب ، أو أبخرةٍ تتصاعد من نيران التدفئة لحراس الأراضي الزراعية، فهو يعلم وِجهته جيداً ؛ بينما تُتمتِم ” بثينة ” بالأدعية والأذكار لتُخفي غضبها من قرار” رفعت” الذي من وجهة نظرها غير مدروس كفاية .
انهى ” رفعت” طريق ‘ التحدي’ حيثُ هكذا أسماه الرعيل الأول من مُستصلحي الأراضي الصحراوية .
توقف ” رفعت” و” بثينة” عند استراحة طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي، ترجَّل من سيارته بملابسه الحديثة الفاخرة ، المُغلفة بمعطف أسود من الصوف الإنجليزي العالي الجودة كان قد ابتاعه من أعوام عندما عمل بتعليم اللغة العربية بإحدى دول الخليج العربي؛ بينما قبعت ” بثينة” خلف زجاجها المغلق منشغلة بالذكر والتسبيح ؛ اختفى ” رفعت” داخل المقهى بجوار محطة الوقود، عاد حاملاً كوبين من الشاي الممزوج باللبن ؛ نَقَدَ العامل ثمن البنزين ، ثم أمسك بمقودهِ بيدٍ واحدة كفارسٍ أحاط بيده زمام فرسه.
في الاتجاه إلى القاهرة لا زالت الرؤية شبه مُنعدمة ، خيوط أشعة شمس تلك الجمعة الغائمة لم تَسطِع أن تَسطُع بعد ، ريحٌ سيئة تملؤ السيارة من الداخل ، مع صوت أنفاس تتلاحق ، اختلس ” رفعت” إلى ” بثينة” النظرات لعلها هي ، لكنها على حالها كما بدأت الطريق ، كسر ” رفعت” حاجز الصمت قائلاً بصوتٍ أقرب للارتفاع لعلمهِ بضعف سَمعِها لتسمعه:
” ألا تشمينَ ما أشم؟!”
فأجابت بصوتٍ هادئ رغم الضيق:
” أشمها منذ كنا عند محطة الوقود ، وحسبتها من المحطة ، أو العامل ، لكنها تتزايد “
فجأة قاطعهما صوت متقطع الأنفاس مُرتعش خوفاً :
” السلام عليكم “
“رفعت” و” بثينة ” في صوتٍ واحد كله فزع:
” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..” وظلا يكررانها حتى أذهب عنهما الروع نفس الصوت :
” لا تخافا ، أنا إنسان لاشيطان..”
أهتز المِقود بين يدي ” رفعت ” لكنه لم يفقد السيطرة فما لبث أن أعاد الأمور لنِصابِها ، بصوتٍ مرتفع كله ثبات قالت ” بثينة”:
” توقّف يا حاج ، توقّف ..”
صرخ صاحب الصوت بنبراتٍ كلها فزع تنبعث مع رائحته الكريهة من المقعد الخلفي للسيارة والغارق في الظلام:
” أرجوك لا تتوقف..”
أدرك رفعت في أقل من الجزء من الثانية بذكائهِ المشهود له به أن صاحب الصوت مرتعد الفرائص ، وليس مجرماً أو قاطع طريق صرخت ” بثينة” بقوة لتتغلب على خوفها باعثةً الذُعر في الرجل :
” ما الأمر ؟! توقف ياحاج ، لنستوضح الأمر ، نحن لا نخشى التهديد أبداً..” قال ” رفعت” بنبراته الحادة وكأنه يرسل بلكمة صاعدة لذلك الغريب :
” لا أستطيع التوقف في( الشبورة) ، هكذا أعرضكِ للخطر..”
خرجت عن صمتها وقالت غاضبة :
” عن أي خطرٍ تتحدث ؟!! كنا جَالِسَين نقرأ القرآن ونسبّح ونستغفر في دفء المنزل ، فخرجت بنا لبرد يناير القارس ، وللصحراء الغائمة ..”
قاطعها القابع في الخلف وقد ذهب عنه فزعه :
” اهدئي يا أمي ، صلوا على النبي يا جماعة..”
فالتفتت له بوجهها الملائكي الطويل النحيل الحاد الملامح، وقد أخفى حجابها الأبيض النقي غُرّتها المتلألأ من كثرة السجود وقالت بحزمها كمعلمة سابقة لأجيال كبيرة :
” أصمت أنتَ ؛ ولا تقل أمي ؛ أولادي مُحترمون ؛ وليسوا قُطّاع طُرق ..”؛
ألجمت كلماتها ذاك الصوت من الخلف ، و” رفعت”يسمع ويرى ، ويدقق النظر في مرآته الداخلية ليرى هذا الغريب مع نور الصباح الباكر ، فبادر بنبرةٍ حادة وصوتٍ قوي لقائد عسكري لا معلّمٍ وقور :
” مَن أنتَ ؟!”
أجاب الغريب وقد مال بجذعهِ للأمام في نقطة الضوء بين المقعدين الأماميين للسيارة :
” أنا أحمد عبد الهادي ، بكالوريوس هندسة قسم ميكانيكا ، وحالياً هارب من سجن ‘ ليمان ‘ وادي النطرون “
التفتت ” بثينة” وهي بين الفضول والتأثُر ، وألقت إليه بما كان يفتقده من رحمة قائلةً :
” لا حول ولا قوة إلا بالله ، مهندس محترم مثلك ما الذي يُلقي به في مجاهل السجن؟!”
أجاب بعنفٍ وغضب :
” النظام الظالم “
باغته ” رفعت “:
” سلفي أم جهادي “
هنا تكشف أحد خيوط شعاع الشمس المحتجب عن وجه الرجل في المرآة الداخلية للسيارة ، فيُجيب بصرامة وعنف ظهرا بوضوح على وجهه المستدير ذي اللحيةالسوداء الكثيفة :
” الجهاد جزء من عمل السلف ، فالجهاد أساس ….”
قاطعه ” رفعت ” وقد أخرج مخالب صقرٍ من فمه :
” أسألك عن انتمائك ؟ سبب الاعتقال لا عن الدين”
أجاب ” أحمد ” وقد امتلكته الذكريات :
” ألقوا القبض علي منذ أكثر من أربعة أعوام عندما انضممت لمساندة طلاب الأزهر في وجه الأمن المركزي “
قال ” رفعت” مستدرجاً له في الحديث وقد أحكم قبضتيه القويتين على المِقود:
“الأزهر لا يحتاج لمساعدة ، الأزهر يُساعد من يحتاجون المساعدة،
وهل أنت أزهري ؟”
أجاب ” أحمد ” : لا
واصل” رفعت”:
” وهل سألكَ من هناك المساعدة “
قال ” أحمد ” بدهشة :
” المسلم يُساند المسلم في وجه الظلم والظالمين دون دعوة ..”
قال ” رفعت ” بدهاء :
” مثل مساندة المسلمين في أفغانستان “
أجاب ” أحمد” بارتياح :
” بالتأكيد..”
نظرت ” بثينة ” بعينين لامعتين لزوجها المُخضرم ” رفعت” نظرة فهم وإعجاب فتلاقت نظرته مع نظرتها فكسرت الصمت متحدثة ” لأحمد ” بصرامة المُعلمة :
” اسمعني يا بُني هذهِ مصر ، ليست أفغانستان ، أو لبنان ، أو فلسطين ، نحن دولة بها جيش قوي مصري ، يحمي ولا يهدد ،دولة بها مؤسسات ، وإن فَسُد بعض من فيها ، فالأغلبية نحسبهم على خير ، وكما تشق هذهِ الأشعة الغيوم والضباب الآن لينكشف الطريق كما تراه الآن ، ستنكشف الغُمة “
أكمل ” رفعت ” :
” وعند انكشاف الغُمة لا بديل لهذا البلد إلا أن يجد الصُنّاع ، والزُراع ، والطلاب ، والبُناة “
قال ” أحمد ” بانفعال بدت منه رائحته الكريهة :
” ومن للأعداء ؟ ، ومن للكفار الفاسدين ومن معهم ؟ “
هنا عَلا صوت ” بثينة ” في وجه ” أحمد ” الهارب المُغيب:
” ومن لأمك التي انفطر قلبها حزناً على سجنك ؟ ! ” واصل ” رفعت” بكلماتٍ كاللكمات:” ومن لأبيك الذي كان يراك الولد والسند ، فإذا بك الألم والمرض ؟!، يا بُني أنا لا أعلم حتى الآن كيف خرجت أو كيف هربت من السجن ، ولكنك تمتلك الفُرصة التي قد لا تتكرر لمثلك ، اطمئن على أهلكَ ولتسعد بكَ أمك وأبوك ، ثم لتعُد إلى محبسك ، سلّم نفسك للجيش هذا لصالحك “
أجاب” أحمد “:
” لكني لم أفعل شيئاً أُعاقب عليه بالسجن “
قال ” رفعت ” رافعاً صوتهُ كأبٍ ينهر ويزجر ابنه :
” بل فعلتَ ، خرقتها وسيغرق بمثل أفكاركَ أهلها ، وأولهم أنت “
وبقلب الأم الناصح نطق لسان ” بثينة “:
” يا ابني هداكَ الله ، من أخطأ يتحمل نتيجة الخطأ ، كن رجلاً وواجه مصيرك ولا تهرب ، وانهِ عقوبتك واطوِ صفحة التطرُّف ثم واصل حياتك “.
وبحركة فُجائية خلع ” رفعت ” معطفه ليرتديه ” أحمد ” وهو يقول له وقد حدق نظره للأمام:
” البس هذا ليُخفي ملابس السجن الزرقاء ، توجد نقطة تفتيش تتبع القوات المسلحة أبصرهاأمامي قبل بوابات القاهرة “
استجاب ” أحمد ” سريعاً ” لرفعت” .
بسترٍ مِن الله مَرّوا من اللجنة ، وبعد البوابات انحرف “رفعت” يميناً إلى جانب الطريق ليهبط من مركبته وأشعة
الشمس تتسلل خلف العُباب ، توجه إلى الصندوق الخلفي للسيارة ، أخرج ملابس كانت له و ينوي التبرع بها ، فتح الباب الخلفي من جهة اليمين ، ألقى بالملابس” لأحمد” آمراً :
” ارتدِ هذهِ وأنزع المعطف ” ؛
ارتدى ” أحمد” الملابس فوق زي السجن ، ثم ترجل بجسده النحيل ووجهِ المُتعب وشعرهِ الحليق ولحيته المُرسلة السوداء ليُصافح ” رفعت” ، شاكرا له وهو يبكي بدموعٍ بللت لحيته الثائرة؛ التفت ” أحمد” ليُحيي ” بثينة” بوجهها المضيء من أشعة الصباح ، وعباءتها السوداء الفاخرة ، التي أنزلت زجاجها ملقيةً إليه بنظرةٍ حانية وهي تمد إليه يدها بكيس ممتلئ بالطعام وزجاجة مياه قائلةً:
” هداكَ الله يا بُني وكفاكَ شر نفسك “.
في بداية الطريق ترك ” رفعت ” ” أحمد” لتسأله “بثينة” :
” لماذا لم تصحبه إلى أبعد من ذلك ؟”
أجابها ” رفعت” وهو يضع نظارته الشمسية ليحجب عينيه اللتين كعيني الصقر :
” طريقنا غير طريقه ، أولادنا في الميدان ولا خبر عنهم ، ولا إشارة في هواتفنا المحمولة ، أنا ذاهبٌ إليهم ، إلى الميدان، أما هو فلابد أن يخلو لنفسهِ الآن قبل الغد ، فلقد خرج و لا بد أن يعود ، وسيعود “

مايسة عبد الحميد

نائب رئيس مجلس إدارة الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى
error: <b>Alert: </b>Content selection is disabled!!